لو كنت تعمل صحفيا، فالأمر سهل جدا بالنسبة لك، إذا كتبت تقريرا عن 10 أخطاء تاريخية في فيلم "الناصر صلاح الدين الأيوبي"، وإن كنت مجتهدا، سوف تستعين بالكتب التاريخية وشهادات أساتذة التاريخ، لتدعم بها تقريرك الجميل؛ الذي لا بعده ولا قبله. لكن الاجتهاد وشهادات الوثائق التاريخية، لا تعني أنك على صواب، أو أنك وصلت إلى اليقين؛ لأن الفن لا يخضع لهذه المعايير ولا يلتزم بقواعد يحددها أناس آخرون لا علاقة لهم بالعمل الفني. ستقول لي: "ما هو الفن؟" أقول: "إن الفن هو تحويل الأشياء إلى حياة، أن يقوم الإنسان بإحياء كل من حوله، فمثلا الإغريق، ملأوا الدنيا والسماء والأنهار والجبال بالآلهة؛ أي أنهم خلقوا الحياة في هذه الأشياء، لذلك كان الإغريق أعظم الفنانين في التاريخ". ستسألني: "ما الفرق بين الفن والعلم؟" سأجيب بأن الفن لا بد أن تقتحمه كلمة "أنا"، لأن الفن هو العالم الذي تراه وتسمعه وتشمه، أما العلم فهو لا يخضع لكلمة "أنا"، لا يخضع لشعور الإنسان، فمثلا الشمس تطلع من الشرق وتأفل من الغرب، شاء من شاء وأبى من أبى، هذا هو العلم. لكن غروب الشمس يحزنني، يجعلني أكتب، بينما يجعل غيري يضحك ويرسم، فالإحساس بالغروب هنا هو العمل الفني؛ أي أن العمل الفني هو تجربة حية تدخل فيها الإنسان بمشاعره وأحاسيسه. هل وصل المعنى؟. السؤال هنا، هل المخرج يوسف شاهين أخطأ تاريخيا في فيلم "الناصر صلاح الدين"؟. إذا كانت السينما إحدى أدوات التأريخ، فالإجابة: "نعم، أخطأ جدا"، لكن السينما ليست أداة من أدوات التأريخ، وليس من مهامها أن تلقن الجمهور معلومات تاريخية، هذه مهمة الآخرين؛ مهمة المدارس والجامعات. وليس معنى أن يعتمد المخرج أو السيناريت على النصوص والوثائق التاريخية، فإنه بذلك أصبح صادقا وأمينا، فأنا وأنت نعرف، أن التاريخ يكتبه المنتصرون. المؤرخ الفرنسي الأشهر "جوستاف لوبون" له جملة شهيرة تقول: "لو كانت الحجارة تنطق، لبدا التاريخ كله كذبة كبرى"، ومعنى ذلك، أن المتفق عليه في الأحداث التاريخية التي وصلت إلينا، لا يعبر بشكل دقيق عن حقيقة ما حدث، والتزام السينما بهذه النصوص لا يعني أنها أمينة وعبرت عن الواقع والأحداث الماضية بشكل حقيقي، كما أشرت سابقا. سأضرب مثالا كي أوضح وجهة نظري. طلبت السلطات السوفيتية من المخرج سيرجاي أيزنشتاين، أن يخرج فيلما للاحتفال بذكرى الثورة البلشفية، ولكن المخرج طلب من السلطات أن تمده بما لديها من مقاطع فيلمية حقيقية لاقتحام الثوار قصر الشتاء، إلا أن السلطات رفضت، فاضطر المخرج أن يأتي بآلاف العمال والفلاحين لتنفيذ مشهد الاقتحام، وأخرج بالفعل فيلما تاريخيا عظيما، هو فيلم "المدمرة بوتميكن". لكن بعد مرور السنوات، اكتشف الجميع السر وراء رفض السلطات لإعطائه المشاهد والصور الوثائقية لمشهد الاقتحام، فالذين اقتحموا مقر القيصر الروسي، كانوا من الضباط والذين يرتدون الزي الموحد، ومعنى ذلك، أن المسألة في حقيقتها كانت حركة منظمة من ضباط الجيش، وليس عمالا وفلاحين، وأن ما حدث مجرد انقلاب عسكري قاده "تروتسكي"، لا مسألة ثورة شعبية. انتهى المثال فالسينما هنا التزمت بما هو موجود في الكتب، ولكن بعد سنوات اكتشف الجميع أن ما هو مكتوب مجرد زيف وكذبة، فوقعت السينما ووقع الفنان في فخ السياسيين وأصحاب المصالح. يوسف شاهين لم يخطئ قالوا إن عيسى العوام ليس مسيحيا كما صّور الفيلم، وإنه كان مسلما ومات مسلما، وإن صلاح الدين الأيوبي لم يقابل ريتشارد قلب الأسد وجها لوجه كما حدث في الفيلم، وإن شخصية فرجينيا مجرد خيال، وإن والي عكا لم يكن خائنا كما ظهر في العمل. وهم محقون في أن يقولوا هذا، فما وصل لهم من معلومات عبر الكتب والوثائق يؤكد ذلك، لكنهم غير محقين أن يجبروا الفنان أن يلتزم به. ولا يمكن أن أتصور أن يوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ، الذين كتبوا الفيلم، قد وقعوا في هذه الأخطاء سهوا وجهلا منهم، ولكن الضرورة الفنية فوق كل شيء. إن فيلم "الناصر صلاح الدين" ليس فيلما وثائقيا وتسجيليا حتى تحاسبه على ذلك، فالسينما عمل فني خالص، وأية محاولة لوضعه في تابوت القواعد والنصوص الجامدة، فأنت بذلك تجرد الفن من إنسانيته، فالسينما ليست كاميرا فوتغرافية تنقل الواقع كما هو، فعلى الفنان والمخرج أن يضيف نفسه إلى العمل ويعيش فيه ويتأثر به، حتى يؤثر فينا. هناك مثل شهير يقول: "إذا أردت أن تبكي الناس.. فابك أنت أولا". في فيلم "الناصر صلاح الدين" يعبر المؤلفون والمخرجون عن وجهة نظرهم، فهم اختاروا شخصية تاريخية كبيرة، وأحداثا مهمة في التاريخ، ثم عبروا عن أيدلوجية معينة ومعان إنسانية ومشاعر قومية من خلال هذه الشخصية وهذه الأحداث، ففى العمل الفني أنت تضع وجهة نظرك وإحساسك ورأيك. فمثلا في فيلم "وداعا يا بونابرت" الذي أخرجه يوسف شاهين سنة 1994، وقف "بونابرت" يقول: "إن أربعين قرنا من التاريخ تتأملنا من أعلى الأهرامات"، وهذه عبارة موجودة بالفعل في كتب التاريخ، التزم بها يوسف شاهين، لكن نجد أن هذا المشهد، تلاه لقطة لأحد علماء الحملة الفرنسية اسمه "كافاريللي" يقول: "ها هو الأحمق يقع في الفخ" في إشارة إلى نابليون. وعبارة العالم الفرنسي ليس لها أساس من الصحة، ولكن "شاهين" عبّر عن نفسه على لسان هذا العالم، أو ربما أراد أن يعبر عن الاختلاف الشديد بين نزعة الرجل العالم، ونزعة الرجل العسكري ورؤيتهما للأمور، إن هذه الجملة قد يعتبرها البعض "غشا" للتاريخ، ولكنه غش لذيذ يدخل في إطار الحيز النقدي، وتعبير الفنان عن رأيه. فالفنان يعبر في السينما عن وجهة نظره للحدث التاريخي وشخصياته، يقحم نفسه بداخل هذا العالم، ويبدّل في أموره كما يرى، ولا يهمه هذا حدث أو لم يحدث، لأن هذا الأمر لا يشغله، إنما يشغله فقط أن يستغل الشخصيات والأحداث الدسمة ليعبر عن الحياة والدنيا وفلسفته الخاصة. وإذا كان الجمهور يسعى إلى البحث عن الحقائق التاريخية، فعليه أن يذهب إلى الكتب والمحاضرات العلمية أو الأفلام التسجيلية، أما أن يتدخل أستاذ أو سياسي أو طبيب في العمل الفني، بل ويحكم عليه، فهذا جهل شديد وظلم كبير، وهو ما تعرّض له الراحل يوسف شاهين في فيلمه العظيم "الناصر صلاح الدين".