كانت الثورة على الحاكم المستبد، والأحوال المعيشية السيئة، قاسماً مشتركاً في كل العصور، القديمة والحديثة، فمثلما فعلها ثوار 25 يناير 2011، ضد الرئيس السابق حسني مبارك، فعلها المصريون في العهد الأموي. خروج المصريون فى العهد الأموى فى ثورة عارمة، اجتاحت أرجاء الفسطاط، فى عهد بنى أمية، للمطالبة بعزل الوالى، ونجحت ثورة الجياع فى خلع الحاكم. ولم يجد وقتها الأمير عبدالله بن عبدالملك، مفراً سوى الهروب من قبضة الشعب، والنجاة بنفسه، بعدما نهب خيرات البلاد، نتيجة الرشوة والمحسوبية، وفرض الضرائب على الشعب، لتصل فى النهاية إلى ثورة جياع تأكل الأخضر واليابس. ويذكر أبوالعباس أحمد بن علي تقى الدين المقريزى الشافعي، شيخ المؤرخين المصريين، فى كتابه "إغاثة الأمة وكشف الغمة"، أن أول مجاعة يخرج الناس فيها، مطالبين بعزل الوالى، هى تلك التى حدثت فى مصر، حينما كانت تحت إمارة الدولة الاسلامية، فى عهد الدولة الاموية، عندما تولى عبدالله بن عبدالملك، إمارة مصر. ويقول: عندما دخل عبدالله مصر، تشاءم الناس به، وكرهوا إمارته, وامتدت هذه المجاعة إلى غلاء الأسعار، وكثرة تغيير الولاة، حتى بلغ عددهم فى 10 سنوات، نحو خمسة ولاة، وظل هذا الامر حتى عهد الدولة العباسية. وبالعودة للتاريخ، بدأت ثورة الجياع فى عهد عبد الله عبدالملك بن مروان عندما قدم إلي مصر فى سنة 86ه، ورفض أهالى الفسطاط استقباله، وكانت فى مصر فى ذلك الوقت، قد غار نيلها، فلم يبق منه شيء، وتزامن قصور الفيضان مع قدوم عبدالله، لذا وصفوه بأنه نذير شؤم، فبدأ إصلاحه بفرض الضرائب، وارتفعت أسعار الغلال، بجانب ازدهار الفساد. ونقل داود الأنطاكي، الملقب بالرئيس الضرير- كان كسيحا مريضا، ثم شفى من مرضه- أن المجاعة حدثت فى عهد عبدالله بن عبدالملك بن مروان، عندما تولى أمر مصر على مكرهة من أهلها، وجاء النيل فى هذا العام على غير موعد بفيضان، ثم تلاه قحط وندرة فى المياه، وصار النيل تخوض فيه الناس والبهائم من قلة المياه وضحالته. كما انقطعت الأعمال المرتبطة بالمياه، وتوقفت المراكب، مما أسفر عن غلاء الأسعار في المدن الكبرى، كالفسطاط، التي كانت تعتمد في ميزانيتها الداخلية على ما يأتيها من ضرائب وأموال تجارة من الأقاليم، فضلاً عن نشاط التجارة الداخلية. وتعطل فى الوقت نفسه تجارة الغلال، وتعثر دخولها إلى الأقاليم فى مصر، كما أدى عدم فيضان النيل فى هذا الوقت، إلى نفوق الماشية، وقلة رقعة الأرض الزراعية، وزادت الأوبئة، وانتشرت الأمراض. وقال ابن المقفع المصري، فى كتابه "تاريخ البطاركة": إن هذه الازمة والشدة، أدت إلى ارتفاع الأسعار، بشكل لم تشهده مصر منذ زمن الفراعنة، وأجبرت أهل الصعيد على الهجرة إلى الريف، لطلب الغلال، وكان يموت كل يوم عدد كبير من الناس، وأيضاً ظهر أول طاعون فى عهد مصر بالدولة الإسلامية، ثم زاد النيل جفافا، وفرض عبدالله بن عبدالملك بن مروان، والى مصر، الضرائب، وزادت الاسعار، وعم الغلاء جميع ارجاء مصر، حتى اصبحت قيمة الدينار والدرهم، بالآلاف. وتابع ابن المقفع المصري: فى ذلك الوقت، أسرف عبدالله فى الأموال المتبقية ببيت المال، على انشاء المكتبات والدواوين، وتجديد مسجد عمرو بن العاص، ثم نفدت الأموال، وزادت المجاعة، حتى عمت الفوضى أرجاء مصر، وظهر النهب والسرقة، وقام جنود عبدالله، باعتقال وضرب الناس فى الطرقات. وعانت مصر فوضى عارمة، وظل الوضع حتى نهاية عام 89 ه، عندما ثار الشعب رافضا غلاء الاسعار والضرائب، مطالباً بخلع الوالي عبدالله بن عبدالملك، وهجم المواطنون على قصره فى حلوان، فقرر ان يترك مصر، وسافر إلى أخيه الوليد بن عبدالملك بن مروان، خارج مصر، وأخذ معه ما جمعه من أموال، وحُلى وذهب، حتى تم قطع الطريق عليه فى الاردن، وتم نهب ما معه، وبعدها تعرض للمحاكمة، وقضى بقية حياته فى السجن. وفي سنة 105ه، تولى محمد بن عبدالملك، أمر مصر، فوقع وباء شديد، هرب منه الوالي الجديد إلى الصعيد، ثم عاد بعد بضعة أيام إلى الفسطاط، ليخرج من مصر نهائيا، وفي 108 ه، تولى حفص بن الوليد بن عبدالملك بن مروان حكم مصر، وكالعادة حدثت موجة فقر، فطلب حفص أن يخرج الناس طلبا للاستسقاء، وكانت اول صلاة استسقاء للمصريين, وتم بفضل الله. عام 133 هجريا، وتحديداً في ولاية أبي عون، أول عصر العباسيين، لم يصل النيل إلى حد الوفاء، وصلى الناس صلاة الاستسقاء، وخرج في ذلك المسلمون والنصارى واليهود من أهل الفسطاط والجيزة، وتبع الغلاء وباء شديد، فهرب أبوعون إلى دمياط خوفا منه، ثم تلى بعد ذلك انتهاء الدولة الاموية، وبدأت الدولة العباسية. الدكتور عبدالمقصود أبوباشا- أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر- قال: المجاعة التى ظهرت فى هذا العصر, الذى سمى بعصر الولاة، وصفها المؤرخون بأشد المجاعات التي تعرض لها المصريون، خاصةً أنها أطاحت بالحاكم. أضاف أبو باشا: إن ثورة الجياع اندلعت نتيجة ما يسمى بثورات الخوارج، التى كانت تتم على الأمصار الواقعة تحت حكم بنى امية، حيث كانت تندلع وتبدأ من الامصار القريبة من مركز حكم الامويين بدمشق، وكان آخرها ثورة عبدالله بن قيس، وتسببت فى إلحاق الخسائر لدى بنى امية، وعندما جاء الوليد بن عبدالملك، عقد اتفاقية مع الخوارج، وجعل لهم نصيبا من الحكم. وأشار أبوباشا، إلى أن الاوضاع هدأت، لكنها اورثت تردياً اقتصاديا كبيرا، تسبب فى حدوث مجاعة بالأندلس وفى مصر، اكبر دولتين واقعتين تحت حكم بنى امية وقتها، ولعب النيل دورا كبيرا فى زيادة آثار المجاعة، وتسبب فى تفاقهما بشكل كبير، بعدما تأخر الفيضان. وتواكبت ندرة الفيضان مع مجيء الوالى الجديد، عبدالله بن عبدالملك، لدرجة أن الناس انشغلوا فى المجاعة ولم يذهبوا لاستقباله كما كان العرف حينها. واستطرد أبو باشا قائلاً: "إن المصريين أرسلوا إلى الخليفة الوليد يريدون أخاه هشام، فرفض وارسل لهم أخاه عبدالله، فعم الفقر ارجاء مصر، لذا لقبوه بمكيسا، لشؤمه على مصر، بعدما عم الفساد وزادت الضرائب، واُعلن افلاس بيت المال، نتيجة إنفاق الأموال على الدواوين والمكتبات، وتجديد مسجد عمرو بن العاص- رضي الله عنه- ووجد المصريون ما كانوا يخشونه من الامير الجديد، حتى عمت الفوضى مصر، وفى نهاية عهده، هاجموا قصره، فقرر عبدالله بن عبدالملك بن مروان الخروج والتوجه الى قصر اخيه الوالى، وتم القبض عليه فى الأردن وقتها، لأنه كان يريد رشوة واليها، ليسمح له بالعبور إلى دمشق، مقر الخلافة الأموية.