حفل تاريخ مصر في العصور الاسلامية بقضاة جعلوا من مجلس القضاء منبرا للحق، وجعلوا لمجلس القضاء هيبته واحترامه من خلال إرساء العدل ، وقد كان في صرخة القاضي ابن حربويه عندما ضحك أحد المختصمين في مجلس القضاء ؛ فصاح فيه ابن حربويه قائلا «مم تضحك ، لا أضحك الله سنك ، تضحك في مجلس الله مطلع عليك فيه، ويحك تضحك وقاضيك بين الجنة والنار» فقيل إن هذه الصرخة أمرضت هذا الرجل ثلاثة شهور . كما ضرب كثير من القضاة في مصر مثلا للعدل ولم يجرمهم شنآن قوم ألا يعدلوا حتي ولو كان الخصوم من الولاة والأمراء . كان من بينهم القاضي العز بن عبدالسلام - الملقب بسلطان العلماء في مصر- وفتواه ببيع الأمراء لأنه لم يثبت لديه أنهم أحرار، ووضع أثمانهم في بيت مال المسلمين ، فرفع الأمر إلي السلطان فبعث السلطان إليه أن يرجع عن هذا، و أغلظ له في الكلام ، فغضب الشيخ وأبى أن يغير فتواه وذهب إلي بيته وحمل حوائجه على حمار ، وأركب عائلته على حمار آخر ، ومشي خلفهم خارجا من القاهرة قاصدا الشام ، فلحقه الناس ، فوصل الأمر للسلطان فركب بنفسه ولحقه واسترضاه واتفق معه علي أنه ينادي ببيع الأمراء . ومن قبله ضرب القاضي بكار بن ابي قتيبة مثلا للقاضي الصالح الذي لا يهاب حاكما ظالما ، فقد كان بكار قاضياعلي عهد أحمد بن طولون، الذي كان يعظم بكار القاضي ويرفع من قدره حتي طالبه ابن طولون بلعن الخليفة الموفق ، فرفض بكار ذلك فغضب ابن طولون منه . وقال بكار في إحدى خطبه عبارة «ألا لعنة الله علي الظالمين» فذهب بعض الوشاة إلي ابن طولون وقالوا له «إنه إنما يقصدك بهذا القول» ، فطلب ابن طولون من بكار رد الجوائز التي أعطاها له ، فقال له بكار إنها بحالتها فأخذها ابن طولون وسجنه عند درب ابن المعلي . ولما وصف به القاضي بكار من التقوى والايمان والصلاح والصبر ؛ كان يغتسل كل جمعة ويتوضأ في محبسه ثم يذهب إلي السجان فيسأله الخروج لصلاة الجمعة جماعة بين الناس فيقول له – السجان - لا سبيل إلي ذلك فيرد بكار «الله المستعان» ويرجع إلي سجنه ، وظل هكذا في محبسه حتي مرض ابن طولون ، فارسل إليه ليخرج من سجنه، ولكنه أبى ولم يخرج من محبسه ، حتي عرف بموت ابن طولون فقال مات البائس ، وظل بكار في هذه الدار – التي حبس بها - حتي توفي بعد ابن طولون بأربعين يوماً . ولم يكن ابن حربويه - ولي القضاء في مصر 329 – بأقل من بكار القاضي ، وكان مهابا وقورا ينادي امراء مصر باسمائهم دون ألقاب ، كانت له قصة مع مؤنس الخادم - من أكبر أمراء الخليفة المقتدر، وكان في خدمته سبعون أميرا سوي أصحابه – الذي كان يخطب له علي جميع المنابر في مصر مع الخليفة ، ولما كان مؤنس في مصر أصابه مرض، فأرسل إلي القاضي ابن حربويه يطلب شهودا ًيشهدهم علي أنه أوصي بوقف علي سبيل البر ، فرفض القاضي ذلك وقال « لا أفعل حتي يثبت عندي أن مؤنسا حر بكتاب من الخليفة المقتدر» ، لأنه خشي أن يكون مؤنس عبدا عند الخليفة ، فأرسل الخليفة المقتدر كتابا إلي القاضي يعلمه بأن مؤنسا حر وأن يجيبه فيما يريد ، ولكن ابن حربويه رفض إلا أن يشهد عدلان أنه كتاب من أمير المؤمنين فشهدوا فامضي القاضي الوقف . ومن المواقف المشرفة لقضاة مصر في العصر الاسلامي ، البحث عن الحقيقة للمظلومين ، فقد ضرب القاضي ابي عبيد بن عيسي البغدادي - قدم مصر قاضيا عام 246 ولم يزل قاضيا إلي أن توفي في سنة 270 – مثلاً في تقصي الحقائق حتي بعد الحكم ، حيث كان هناك توأمان بمصر لا يستطيع أحد تفرقتهم من قوة الشبه ، حبس أحدهم لأنه لم يدفع دينه ، فكان يأتي أخوه إليه فيجلس في المحبس ويذهب الآخر، فاشتهر هذا حتي وصل الأمر إلي أبي عبيد فأحضرهما وقال لهما أيكما المحبوس فبادر كل منهما فقال أنا هو ، فطلب الغريم ودفع إليه الدين بعد بحث في اسباب الحكم علي هذا الرجل واستطاع إثبات خطأ هذا الحكم . يقول الدكتور عطية القوصي -استاذ التاريخ الاسلامي جامعة القاهرة- إن هناك من كلف بالقضاء ولم يرض بتولي هذا المنصب خوفاً من عدم تحر العدل، حتى الإمام أبو حنيفة رفض تولي هذا المنصب بعد أن كلفه به أبو جعفر المنصور خوفاً من أن يؤثر عليه الحاكم في قراراته ، خاصة لماعرف عن أبو جعفر المنصور من صرامته ومحاولته الضغط علي القضاة وغيرهم للانصياع لأوامره . وكان للإمام الشافعي قصة عندما اتهم بأنه منحاز للعلويين ضد الدولة العباسية أيام الخليفة هارون الرشيد ، فطلبه الرشيد للمحاكمة فاستمع له وعفى عنه ، ولكنه رفض المكوث في بغداد وحضر إلي القاهرة . وايضا كان موقف الشيخ العز بن عبدالسلام ووقوفه في جانب الحق والعدل كقاض وماقام به من تحفيز المماليك والشعب لحرب المغول ، ولم يهب يوما ً من استبداد وظلم الحكام بل وقف لهم يرسي دعائم الحق والعدل .