لا شىء يبقى على حاله، حتى خطبة الجمعة طالها ما طال حياتنا من بؤس، صارت طقسا جامدا لا روح فيه، شتاتا لا جدوى منه، جُرعة إنشائية سقيمة، لا تضئ طريقا، ولا تهدى ضالا، ولا تُقوّم مُعوجا، خطبة الجمعة فقدت معناها، لم تعد ومضة روحية، ولا عظة روحانية، يقصد المصلون المساجد، قبل أن يصعد الخطيب إلى المنبر، ليس بحثا عن فائدة، ولكن مدفوعين بالخوف من ألا يكتمل ثواب الجمعة، استنادا إلى أحاديث مطعون في صحتها، يذهبون مبكرا لا ليشنفوا آذانهم بخطبة مفيدة، ولكن ليخلدوا في سُبات عميق، لا يستيقظون منه إلا مع قول الخطيب: "وأقم الصلاة". فقدت المنابر خُطابها اللامعين المُفوهّين، فقد تم إسكات أصواتهم، طوعا أو كرها، وأحكمت وزارة الأوقاف قبضتها الحديدية على المساجد، وفرضت على منابرها "خطباء موظفين"، بلا أدنى موهبة، وخطبا بلا روح، تجافى تجدد الإسلام وحيويته، وتخاصم مستجدات الحياة، يُصدعنا وزير الأوقاف بتصريحات وبيانات ومؤتمرات عن "تجديد الخطاب الدينى"، دون أن يربطها بعبارته الماكرة: "تنفيذا لتعليمات السيد الرئيس"، ثم يؤمم خطبة الجمعة، ويُلزم موظفيه من الأئمة والدعاة "المختومين بختم النسر"، خطبا مملة ومنفصلة عن الأحداث، ويكفى أن الأسبوع الذي شهد واقعة "تعرية سيدة قبطية في المنيا"، كانت الخطبة المقررة على مساجد مصر عن "الرضا"، وهى قيمة لا يعترف بها كثيرون من مليونيرات الوزارة. الناس في العلم والمعرفة والثقافة درجات، فلا يصح أن تكون الخطب المقررة على مساجد الحضر، هي ذاتها الخطب المقررة على مساجد الريف، ولا يصح أن يخطب في جمع من المثقفين والمستنيرين "شيخ حافظ مش فاهم"، لا يجب أن تخضع خطبة الجمعة لما تخضع له المناهج التعليمية، لا يستويان مثلا، تأميم الدين ليس حلا، تأميم المساجد ليس حلا، تأميم الخطب والعظات ليس حلا، الأجيال الجديدة لن يقنعها دين بهذا الجمود، سوف تتجاهله حتما، أو تتركه إلى ما يناسب آفاقها الرحبة التي لا تستوعبها عقول القائمين على الجوامع والمساجد. الرسول يقول لأتباعه: "أنتم أدرى بشئون دنياكم"، ولكن الوزير الحالى يرى في نفسه أنه أدرى منا بشئون دنيانا وديننا، فيفرض علينا سقيم الخطب، ثم يذهب إلى الرئيس باسما ويقول له: " جددنا الخطاب الدينى". المهمومون بأمر خطبة الجمعة، يرونها حدثا استثنائيا فريدا يجتمع فيه معظم مسلمى الحيّ أو المنطقة في مكان واحد، وفرصة استثنائية لإجراء حوار مجتمعى إصلاحي، لمناقشة قضايا الساعة وتوحيد الصفوف واستنهاض الهمم، ووضع خطط إستراتيجية لمسلمى المدينة أو القرية أو الحيّ لما يمكن فعله في الفترة المقبلة لتنمية المجتمع وإصلاحه، وليس للاستماع إلى روايات ضعيفة، وأمور لم تحدث أصلا، ووقائع مشكوك في صحتها. المهمومون بأمر تجديد الخطاب الدينى، لا يرون في تأميم الخطب والمساجد حلا، بل يقترحون أن يحدد رواد كل مسجد موضوع الخطبة، وتأهيل الخطباء عبر دورات تدريبية متقدمة ومتطورة، كما يقترحون توظيف التقنيات الحديثة بكل تفاصيلها بالمساجد، حتى تتحول إلى قاعات للعلم والدراسة والارتقاء بمستوى مرتاديها. لا ينقصنا مال ولا مهارات، فأموال الأوقاف تفوق جبل "أحد" طولا وعرضا وارتفاعا، لكن تنقصنا الإرادة، تنقصنا مَلَكَة التفكير خارج الصندوق، ولكن هذا لن يحدث قبل أن يدرك أولياء أمور ديننا أن الإسلام دين حضارى متجدد، وليس دينا صحراويا يكره الحياة وينفر من التفكير.."فيتو" تناقش هذه القضية في ثالث ملفاتها الرمضانية..