نفد البن من علبتي!! استيقظت لأجد علبة البن فارغة، بدون أي سعادة ابدأ بها يومي.. العصافير صامتة!! أخشى جديًا أن تكون موجات الحرارة العالية قد قتلتها ونالت من أجنحتها أم تراها تتبع نظام غذائي تفسده حبات القمح!! أو تراها تهملني عن عمد لتزيد المتاعب ؟!.. أيعقل أن تكون نسيت طريق نافذتي؟!..لا أعرف، أنا فقط اختلق لها الأعذار كما أفعل مع كل الغائبين لألهي قلبي عن قلق يمضغه وانتظار يفتته إلى أجزاء كل منها يكمل قلقه على حدة!! وهكذا قد تآمرت على الظروف فقد أغلقت العطلة محل البن عدة أيام وهكذا أمضيت هذا الصباح الممل دون حتى فنجان القهوة الذي أعطره برائحة الشمس!! وأخيرًا رحلت العطلة إذا فلا داع للانتظار أكثر من ذلك، ارتديت ملابسي وخرجت كي احظي بالقليل من المشي ذلك المسكن السريع يهون على الكثير حتى اذهب لذلك المحل العتيق واشتري بن.. ها أنا ذا اتأبط ذراع عقلي المشتت وامشي الهوينا ليحكي لي قصصه وأنا أنصت له في انعدام حيلة، اقرأ عليه رواية بطلتها تشبهني كثيرا بحبها للمطر والقهوة وصوت فيروز الذي تلتقط فراشاته من بيت جارتها الغامضة، ولعها، وانتظارها اللامعقول بشغف يشبهني. صنعت فنجان من القهوة وجلست احتسي تلك الرواية، "يافا حكاية غياب ومطر" لكاتبة فلسطينية شابة وجدتها بالصدفة بينما كنت اتصفح الإنترنت. حسنا، هل كان من الممكن إلا اقرأها وهي تحمل اثنين من الكلمات السحرية على غلافها الأبيض؟! يافا ومطر، تلك المدينة القديمة التي يوم زارتني في حلمي استيقظت مبتهجة ورائحة البحر لا زالت عالقة بأنفي، والمطر الذي يجعلني بمنتهي البساطة اركض كطفلة مبتلة الشعر بسعادة عارمة. جلست أقرأ تلك الرواية وسرعان ما وجدتها تقرأني. وجدتها حكاية غياب ومطر أعجبتني حد الارتباك والبكاء، يافا هو اسم كاتبة قررت أن تعتزل الحروف والشهرة وتعتزل معهم البشر أيضًا، قررت أن تغلق قلبها على ذكرياتها وجرحها الغائر، وأغلقت معه باب بيتها واعتزلت البشر تماما، لم تستطع أن تنسي شعور الفقد الذي اجتاحها منذ قتل حسن حبيب طفولتها أمام أعينها، فقد قررت أن تقضي كل عمرها بين جدران بيتها مع قصة منقوشة تفاصيلها على جدران ذاكرتها، لكن كل تلك الأبواب الموصدة لم تصمد طويلا أمام فضول قلب صحفية شابة، جارتها التي تنصت لما يهرب من بيت يافا من أغاني وموسيقي تحبها. تسأل أهل الحي وتبحث كعصفورة جائعة عن أي معلومات عن تلك الجارة الغامضة، حتى قررت أنها ستكتب إليها خطابات عديدة تحكي لها طويلا عن حياتها وعن أسرار قلبها عل جارتها تقرأها وتقبل أن تفتح بابها وقلبها، وهكذا تطورت الاحداث حتى وجدت نفسها تتجول في غرفة ذكريات يافا الجارة الغامضة، يافا التي قررت تقف على حافة الحياة وتتحول بإرادتها إلى شبح باهت لأنها لم تستطع مواجهة العالم بوجعها عادت للحياة وللكتابة مرة ثانية. وكأني أسمع فيروز تهتف "شو بيبقي" وكأني أسمع بوضوح الأغنية تنساب من بين سطور تلك الرواية.. "شو بيبقي ؟! بيبقى قصص صغيرة عم بتشردها الريح".. الحقيقة أن كل شيء يتغير وأن الدنيا لا تكف عن ادهاشنا بأشياء غير متوقعة، أشياء كنا نخالها بالأمس فقط مستحيلة نجد أنفسنا اليوم نحياها، أحداث كنا نقرأها كرواية حتى نجد أنفسنا أبطالها ولا نملك شيء سوي الدهشة من قوانين الحياة وقرارات قلوبنا، ويأكلنا الفضول لمعرفة المستقبل كقارئ يتلصص على صفحات الرواية الأخيرة.