كان «الجاحظ» - 159 ه - 255 ه - موسوعة تمشي على قدمين، وتُعتبر كتبه «دائرة معارف» لزمانه، كتب في كل شيء تقريبًا؛ كتب في علوم الكلام، والأدب، والسياسة، والتاريخ، والأخلاق، والنبات، والحيوان، والصناعة، والنساء، والسلطان، والجند ،والقضاة، والولاة، والمعلمين ،واللصوص، والإمامة، وصفات الله، والهجاء. "البيان والتبيين"،" الحيوان"، و"البخلاء"،كتب خلّدت ذكرى"الجاحظ" ،وأثرت وجدان من يهوون القراءة والاطّلاع،وعندما يهاجمنى الحزن ،ألجأ إلى "البخلاء"،فيبدد حزنى ويرسم البسمة المفقودة على شفتىّ. ومنذ أن شرعتُ فى تقديم حلقات "عودة الروح" على صفحات "فيتو"،وأنا أعتزم زيارة "الجاحظ" فى عالمه، ولكن الظروف كانت تحول دون ذلك،إلي أن قررتُ زيارته مع مطلع شهر رمضان، فوجدته يجلس بين مكتبة تجمع بين كتب قديمة جدا ،وبين كتب حديثة ،قام بتخزينها –كما أخبرنى- على جهاز كمبيوتر موضوع أمامه على مكتبه. أحسن الرجل استقبالى، وسألنى عن أهل مصر،فساءه ما ابتلاها الله به من شيوخ الحلال والحرام والتكفير ، وكان ذلك مدخلا لسؤالى الأول ل"الجاحظ"،والذى كان له قدم راسخة فى هذه القضية التى تسئ إلى الإسلام ،أكثر مما تحسن إليه. سألتُه عن منهجه فى الحلال والحرام ،فقال: "إنما يُعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة" . قلتُ :لكن هناك من يقولون غير ذلك ويتمسكون بما كان يفعله الصحابة وأهل المدينة ،فقاطعنى محتدا: كنت ولا أزال رافضًا أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة ،وليس كل ما يقولونه حقاً وصواباً". كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء ،لذا فإننى عندما سألته عن السلفيين، قال كلاما جارحا فى شأنهم لا يصح نشره حتى لا يرمونى بالكفر ،باعتبارهم وحدهم من يملكون صكوك الغفران ،وأنهم قد منحتهم السماء الحقوق الحصرية لتحديد رواد الجنة ونزلاء النار. وفى أثناء الحوار ،هاجم الجاحظ رجال الحديث، لأنهم لا يحكّمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، وقال: "ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهانها خفّت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان." قلت :فلتضرب لنا الأمثال، قال : أنا لا أقبل –مثلا- ما يرويه الرواة من أن الحجر الأسود كان أبيض اللون واسودَّ من ذنوب البشر، ولو كان ذلك صحيحا ،فلماذا لم يعد إلى لونه بعد أن آمن الناس بالإسلام؟!. لم أشأ أن أبرح تلك المنطقة الحوارية الشائكة، فسألتُه عن الخروج على الحاكم ،فأجاب: كنت وما زلتُ أرى ضرورة الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع. سألته عن رأيه فى السجال العنيف بشأن اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور،فسألنى عن أعضائها ،فأبلغته أن كثيرا منهم سلفيون وإخوان،فأطلق ضحكة ساخرة ثم قال : إذن ..فأبشر بدستور مهترئ ،فالعقل الصحيح أساس من أسس التشريع،وهؤلاء لا يملكون عقلا صحيحا وعليكم أن تنقذوا دستوركم من بين مخالبهم.. ألجمنى الصمتُ من استنارة الرجل وصراحته وجرأته حتى بعد موته،ولكنه بدا واثقا من آرائه ومدافعا عنها ومؤمنا بها أشد الإيمان.. ومن هنا بدأت قلتُ:لك موقف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم،أوضحه؟ فأجاب :صحابة الرسول الكريم لهم منا كل التقدير والتعظيم،ولكنى كنت وما زلت أرفض وضعهم في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يتعرض لأعمالهم ويقيمها وينقدها، فمن حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته وقربه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-. سُمّيت "الجاحظ" لجحوظ عينيك ،غير أنى لم أجد هذا الجحوظ ،فما السر فى ذلك؟ سألنى ساخرا :وما يدهشك فى أنى كنت معيبا فصرت صحيحا؟،قلت وقد تصببت عرقا :لا شيء! حاولت أن ألطف أجواء الحوار الذى تعكر صفوه بهذا السؤال غير الموفق،فتلوتُ عليه ما قاله عنه ابن خلدون عندما تحدث عن علم الأدب : "سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة كتب هي: أدب الكاتب لابن قتيبة، كتاب الكامل للمبرد، كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها"،فسُرّ "الجاحظ" وحمد لى هذه اللفتة. استأذنته فى كتاب "الحيوان" الذى كان موضوعا أمامه ،فناولنى إياه ،ثم طلبت إليه أن يحدثنى عنه ، وعن أسلوبه المتميز ، فقال: الكتاب لم يقتصر على الموضوع الذي يدل عليه عنوانه.. بل تناولتُ فيه بعض المعارف الطبيعية والفلسفية.. وتحدثثُ في سياسة الأفراد والأمم.. والنزاع بين أهل الكلام وغيرهم من الطوائف الدينية.. وفي الكتاب موضوعات تتعلق بالجغرافيا والطب وعادات الأعراب وبعض مسائل الفقه ،هذا عدا ما امتلأ به الكتاب من شعر وفكاهة ،وأعلم أن الكتاب كان مثار جدل ونقد من بعض اللاحقين ،وأنا أعدهم أننى سوف أصدر طبعة جديدة منقحة،ليس بها أى عوار. بعد ذلك انتقلنا إلى كتاب "البخلاء"، فقال عنه "الجاحظ" :هو كتاب أدب وعلم وفكاهة ،وقد صغته صياغة نادرة، في أوضح بيان، وأدق تعبير، وأبرع وصف. ثم تابع : الكتاب صور البخلاء تصويراً واقعياً حسياً نفسياً فكاهياً، فأبرز حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنة ونزواتهم النفسية، وفضح أسرارهم وخفايا منازلهم و مختلف أحاديثهم، وقصص الكتاب مواقف هزلية تربوية قصيرة،كما أنه دراسة اجتماعية تربوية نفسية اقتصادية لهذا الصنف من الناس وهم البخلاء،والكتاب –باختصار- موسوعة علمية أدبية اجتماعية جغرافية تاريخية. وهنا ..توقفتُ عن الحوار مع "الجاحظ" ،لارتباطه بالظهور فى فضائية "الموتى تى فى" ،وتذكرت حينها عبارة "ابن العميد " عنه : "كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً".