يعرض الدكتور محمود رمضان خبير الآثار والعمارة الإسلامية مدير مركز الخليج للبحوث والدراسات التاريخية، موضوعا مهما بصفحته «الصالون الثقافي» عن متحف (الفنون الزخرفية بباريس) بقلم د.أحمد الصاوي أستاذ الآثار والفنون الإسلامية، في إطار دعوة العالمين الجليلين لنشر الوعي بأهمية التراث الإنساني العالمي والحفاظ عليه. ويقول د.أحمد الصاوي في مقاله: يعد متحف الفنون الزخرفية بباريس أحد أهم متاحف الفنون في العالم، ليس فقط بالمجموعة الكبيرة من المقتنيات التي يعرضها وهي تتجاوز 150 ألف قطعة، ولكن أيضا لالتزامه الدقيق بالتتابع التاريخي في طريقة العرض، وهو ما يجعله المتحف الوحيد في العالم الذي يمكن أن يعطي لزواره فكرة واضحة عن تطور فنون الزخرفة في العالم، منذ العصور الوسطى وحتى العصر الحديث. يقع مبنى المتحف في 107 شارع دي ريفولي إلى الغرب مباشرة من متحف اللوفر، ويرجع تاريخ إنشائه لعام 1905، ويرجع الفضل في تشييده للاتحاد الفرنسي للفنون الزخرفية، وتولى تصميمه المهندس المعماري "جاستون دجي". ونظرا لرغبة اتحاد الفنون الزخرفية في تنمية القدرات الفنية على التصميم الداخلي فقد كرس المتحف بصورة رئيسية لعرض أثاث المنازل واللوحات الدينية والمفروشات والخزف والأواني الزجاجية، بل والدمى أيضا من العصور الوسطى. والحقيقة أن الاهتمام الأكبر للمتحف يشمل الفنون الفرنسية، ولذا يجد الزائر بالمتحف أقمشة "أوبيسون" وخزف "سيفر" وأدوات المائدة وكذا قطع زجاجية من أعمال "رينيه لايلك" و"إميل جالي" وأغلب المقتنيات الأوروبية الأثرية تعود للقرن الثالث عشر الميلادي. ونظرا للإقبال الأوروبي منذ عصر النهضة على اقتناء منتجات الفنون الإسلامية لتزيين المنازل والقصور، بل والكنائس، فقد حرص متحف الفنون الزخرفية بباريس في إطار سياسة الاستحواذ على أن تضم مجموعة معروضاته أعدادا كبيرة من قطع الخزف والسجاد والأقمشة والزجاج، والأثاث الخشبي واللوحات الفنية التي تم إنتاجها في أرجاء العالم الإسلامي. ويكفي للدلالة على ضخامة مقتنياته من الفنون الإسلامية أن المتحف أهدى لقسم الفنون الإسلامية بمتحف اللوفر نحو 3400 قطعة في النصف الأخير من القرن الماضي. ويحرص متحف الفنون الزخرفية بباريس على تنظيم المعارض الدورية لاجتذاب أنظار المصممين والجمهور على حد سواء،ولدى المتحف مكتبة كبيرة لخدمة الباحثين في مجالات تاريخ الفن والفنون الزخرفية، كما يقوم المتحف بشراء اللوحات والأعمال الفنية الحديثة وخاصة من فرنسا. ومن المعروف أن هذا المتحف كان مصدر إلهام مباشر لمؤسسي المتحف الوطني بمدينة نيويورك، والذين بلغ إعجابهم بمقتنياته حد السعي لاستنساخه في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبمتحف الفنون الزخرفية بعضا من أجمل التحف الإسلامية، ولا سيما من منتجات النسيج سواء من السجاد أو الأقمشة. ومن السجاد الإسلامي بالمتحف سجادة إيرانية من النوع المعروف بسجاجيد الصيد، إذ تحتوي على منظر تصويري لصيد بري يقوم به فرسان، وآخرون يعدون خلف طرائدهم من الغزلان والطيور البرية، فضلا عن الوحوش الكاسرة من فهد ونمر، وقد نسجت تلك الرسوم بالألوان الحمراء والصفراء والزرقاء على أرضية سوداء داخل ساحة كبيرة يحيط بها إطار عريض من الزخرفة النباتية، ويبدو من طريقة رسم الأشخاص وعماماتهم أن هذه السجادة تعود للعصر الصفوي في إيران، وبالتحديد لبدايات هذا العصر في القرن العاشر الهجري (16م). وبالمتحف قطع رائعة ونادرة من النسيج الإسلامي، ولاسيما من إيرانوتركيا وأواسط آسيا والهند، وهي جميعها من الأنواع المزخرفة بالتطريز والبرودريه. فمن تركيا العثمانية حيث انتشرت طريقة "السيرما" في تطريز النسيج نجد قطعة من القماش القطني طرزت بخيوط من الحرير وقوام زخارفها رسوم نباتية من زهور وأوراق نباتية تجمع فيما بينها خطوط حلزونية، وهي تشبه إلى حد بعيد طراز الزخرفة الذي كان سائدا في تركيا خلال القرنين الحادي والثاني عشر للهجرة (17-18م)، ورغم غلبة اللون الأحمر الذي تشتهر به الأقمشة التركية العثمانية فإن الزخرفة لا تخلو من اللون الأخضر والذهبي والأزرق. ويشبه تلك القطعة مفرش تمت زخرفته بأسلوب التطريز، وقوام زخرفته فروع نباتية تخرج منها مراوح نخيلية وأنصافها باللون الأزرق،وبداخل هذه الفروع رسم لزهرة الزنبق التي حددت باللون الأحمر ولونت بخيوط ذهبية اللون. ويشبه الأسلوب الزخرفي المتبع في رسم الأوراق النباتية ذلك المعروف في الفنون العثمانية بأسلوب "الهاتاي" مما يرجح أن المفرش قد صنع في القرن الحادي عشر الهجري (17م). ومن أوزبكستان بآسيا الوسطى يقتني متحف الفنون الزخرفية مفرشا من القماش المطرز، ربما يعود تاريخ صنعه للقرن الثاني عشر للهجرة (18م)، وقد امتلأت رقعته البيضاء بزخرفة مطرزة قوامها رسوم فروع نباتية تمتد من أسفل لأعلي، وهي تقسم الرقعة لدائرتين رسم لوردتين يتم تكرارهما بالتبادل على امتداد رقعة المفرش الأولى منهما لها ثمان بتلات لونت ست منها باللون الأحمر والزهرة الثانية مركبة من وردة صفراء متفتحة داخل زهرة حمراء كبيرة، وتعكس هذه القطعة من النسيج الروح الزخرفية للفنون الشعبية في أواسط آسيا والتي ما زالت تنتج وفقها المنسوجات التقليدية في أوزبكستان بوجه خاص. ويقتني المتحف أيضا نماذج مختلفة من الأواني الزجاجية من بينها قطع صنعت بمصر أو الشام خلال عصر دولة المماليك، ولعل أبرزها "مشكاة" من الزجاج المموه بالمينا المتعددة الألوان. ورغم أن الغرض الأصلي من صناعة مثل هذه المشكاة هو توفير الإضاءة الليلية، وخاصة بالمساجد، فإن شهرتها التجارية بين حجاج بيت المقدس من الأوروبيين قد أتاح الفرصة لصناع الزجاج بالشام لصناعة مشكاوات ذات زخارف مسيحية. والمشكاة التي يعرضها المتحف يبدو من كتاباتها أنها صنعت برسم أحد سلاطين المماليك، ربما لتوضع في مسجده أو في قصره، وهي تمتاز بكتابات نسخية بخط الثلث حول رقبتها استخدمت المينا الزرقاء في تنفيذها، بينما تتوزع الأشرطة الكتابية التي تحوي ألقاب السلطان على بدن المشكاة الكروي، وتحفل المشكاة بزخارف الزهور النباتية سواء عند رقبتها أو حول البدن والقاعدة، وهي شديدة الشبه بزخارف مثيلاتها المنتجة في القرن الثامن الهجري (14م). وللخزف الإسلامي نصيبه الوافر أيضا بين معروضات متحف الفنون الزخرفية بباريس، ومن أمثلته مجموعة من البلاطات الخزفية التي كانت تستخدم في كسوة الجدران، وهي من إنتاج مدينة "أزنيك" التركية في العصر العثماني. وقد تم استخدام أسلوب الرسم تحت الطلاء في تنفيذ الرسوم النباتية بألوانها البراقة، فيما عدا اللون الأحمر الطماطمي والذي يبدو بارزا بشكل ملحوظ، فهو وحده المضاف فوق الطلاء الزجاجي، وهو عبارة عن عجينة طينية من تربة هضبة الأناضول. وقوام زخرفة هذه البلاطات مناطق بيضاوية زرقاء محاطة بزخرفة باللون الأحمر وبداخلها رسوم ورد مثل الزنبق والقرنفل، وجميعها من الزخارف النباتية التي كانت شائعة في الفنون التركية العثمانية خلال القرن العاشر الهجري (16م).