في بر مصر.. بشر لايستسلمون للألم، يرفضونه، يلفظونه، يكسرونه حتى لا يكسرهم ويذل اعناقهم، يدركون أن «الأيد البطالة نجسة» لايأبهون بظروف مهما تعاظمت قسوتها، يتجاهلونها، يتخذون منها حيرًا لعهر الألم، وتالبحث عن «لقمة عيش» حلال، نعم يبحثون عن الحلال، ولا شيء غيره، حتى لو عانقهم الفقر، وطاردهم في أي مكان حلوا فيه، فهذا امرأة تعمل على الرجال معبر ما فقدت العائل، وذلك طفل خرج من بطن أمه إلى «اشغال شاقة».. السطور التالية تقدم لنا نماذج من أولئك الذي لم يستسلموا ولم يخضعوا، حتى لو في ظلت في حلوقهم غصة من مجتمع لايرحم، وحكومة لا تكفر فيها ولا تحنو عليهم. «الحاجة رضا» نموذج مصرى خالص لآلاف السيدات اللاتى تجبرهن ظروفهن على الدخول في معترك الحياة، بعد أن تفقد سندها في الحياة المتمثل في «زوجها»، فالحاجة رضا فتحي، 50 سنة، فقدت زوجها منذ عشرين عامًا تقريبًا، وترك لها 5 من الأولاد والبنات، وهى لا تملك شيئا من حطام الدنيا، ورفضت أن تمد يدها للغير رغم ظروفها الصعبة التي كانت تعيشها. ووسط هذه الظروف القاسية، فكرت في أن تعتمد على نفسها وتحفر بأظافر صلدة في صخور صلبة لتكون نموذجًا للسيدة المعيلة، فتجاهلت النظرات القاسية من المجتمع، وقررت أن تدخل الأسواق؛ حيث استقلت سيارة نصف نقل محملة بأنواع عديدة من الخردوات والعطارة، تجوب بها القرى والمراكز، لتوزيع بضاعتها على تجار التجزئة والبقالين والعطارين بمحافظتى بنى سويف والفيوم، لتنفق على أولادها وتتحمل مسئوليتهم التي تزداد يومًا بعد يوم مع تقدم العمر بهم، وتطور مطالبهم، وعندما ينتقدها الرجال في الأسواق يكون ردها دائمًا: «جوزى مات ومعى 5 أولاد»، «الدنيا صعبة وماحدش هيأكلنا لو قعدت في البيت». الحاجة رضا التي بلغت من العمر نصف قرن إلا أيامًا قلائل، بدأت تسرد حكايتها قائلةً: "منذ 30 عامًا تزوجت من رجل فقير، لا يملك إلا محل بقالة بسيط، ونظرًا لكونى سيدة معمرة بطبعى فقد أنجبت منه 5 من الأولاد والبنات، كانت مهمتى في المنزل إعداد الطعام ومباشرة أحوال الأطفال، بينما يتولى زوجى الإنفاق علينا، ومع ازدياد مسئولية الأطفال ال5 اقترضنا من البنك مبلغا بضمان السجل التجارى لمحل البقالة، لكن عجزنا عن السداد لفترة طويلة، وأوشك البنك أن يحجز على المحل مصدر رزقنا الوحيد، فقررت الوقوف بجانب زوجي، وبعت بعض الخردوات البسيطة، حتى استطعنا سداد ديوننا، لكن الموت اختطفه منا فجأة، ووجدت نفسى بين 5 أطفال دون مصدر رزق واحد". وأكملت: "شاركت الرجال في دفن جثمان زوجي، وعدت إلى المنزل والتفكير ينهش في عقلي، وسط صراخ وبكاء أطفال في مقتبل العمر، لا أعرف ماذا يخبئ لهم الزمان، أسودت الدنيا في عيني، وتعرضت كثيرًا لمواقف صعبة، وشعرت بأن أبنائى مهددون بالتشرد والضياع، وكنت أخشى أن يتركوا التعليم، قررت ألا أنتظر أن يُطعمنا أحد أو يعطف غريب على أولادي، فاقترضت 10 آلاف جنيه قابلة للرد خلال عام، وقمت بشراء سيارة نقل، ثم تعلمت القيادة، وقررت جمع وبيع الخردوات ومواد العطارة؛ لأجوب بها القرى والمراكز؛ لتوزيع البضاعة على تجار التجزئة والبقالين والعطارين بمحافظتى بنى سويف والفيوم، وبعد أقل من شهر أحسست بأننى تمردت على العادات والتقاليد، ولم أبالِ بنظرات الناس إليَّ، فكان هدفى في الحياة تأمين مستقبل أطفالي". واستطردت «الحاجة رضا» قائلة: "مر الوقت وأصبح لى زبائن يأتون لى في منزلى وأذهب إليهم في قراهم بسيارتي، وعانيت من تجار الخردوات أمثالي، وكانوا كلهم من الرجال فلم يرحمونى بنظراتهم القاسية، كما كنت أحمل أصغر أبنائى على يدى وأنا أعمل، ينهش المرض والجوع في جسدى دون أن أتوقف حتى يكتمل حلمى في تربية أولادي، دون أن نمد أيدينا لأحد". وعن ردود الفعل التي تواجهها لمخالفتها عادات وتقاليد أهل الريف والمجتمع الصعيدي، قالت «الحاجة رضا»: "الأمر في البداية لم يكن سهلا، والجميع كان ينظرون إليَّ بدهشة واستغراب، وتحملت الكثير من السخرية، ولكن لا وقت للرد على المنتقدين لتصرفى فالحياة صعبة، وعملى يتطلب منى الدوام لأكثر من 14 ساعة؛ حيث أخرج يوميًا في السادسة صباحًا لأعود بعد الثامنة مساءً؛ بحثا عن لقمة العيش، ولكن سرعان ما تبدلت نظراتهم، وتغيرت مواقفهم". تعود «الحاجة رضا» بذاكرتها للوراء قائلة: «تقدم العديد من الرجال للزواج مني، فرفضت أن يكون لأبنائى زوج أم.. قضيت على رغباتى وأنوثتى في سبيل راحة أولادي»، و«طالبنى الكثير بضرورة الزواج وعدم إهدار شبابي، إلا أنى رفضت، وأصررت على استكمال مشوارى وتربية أبنائى وتعليمهم». وعن أبنائها، قالت «الحاجة رضا»: ابنتى الكبرى «إيمان» الحاصلة على بكالوريوس تجارة، تزوجت منذ 3 سنوات، بينما حصل كل من «سمر وأمل وأميرة ومحمد» على دبلومات فنية، مشيرة إلى أن أولادها وأهل زوج ابنتها يتشرفون بنسبها؛ حيث يطلقوا عليها لقب «ست ب100 راجل». وأضافت «جيرانى نصحونى كتير بأنى أخرّج عيالى من المدرسة، لكنى رفضت وحاربت عشان يتعلموا، وكنت دائمًا أقول لهم: افتكروا دائمًا أنى بشتغل وبتعب في الشارع عشانكم، وكنت بديهم دروس خصوصية عشان مفيش حد في البيت يذاكر لهم». وعن أصعب المواقف التي تعرضت لها، عادت «المرأة الحديدية» بذاكرتها قائلة: «مواقف كتير عدت عليا وظروف صعبة مريت بيها، لكن ربنا كان بيقف جنبى ومابيخلنيش أمد أيدى لمخلوق»، «بس أصعب موقف لما كان حد من ولادى بيطلب منى حاجة وماأقدرش ألبيها».!!