تتضح سماحة الإسلام مع غير المسلمين، والتي كان الناس بسببها يدخلون في دين الله أفواجًا، بسبب وجوب الإيمان بجميع الرسل والكتب السابقة على من يتشرف بدخوله الإسلام، وكذلك مساواة الإسلام بين المسلمين وغيرهم في سائر المعاملات، فيدعو إلى الإحسان مع الناس كافَّة، والتعامل معهم بالحسنى، على أساس أن الجميع خلق الله تعالى، وأن أحبَّ الخَلْق إلى الله أنفعهم وأجداهم للناس، لذا أمر الله - عز وجل - عبادَه - والناسُ كلهم عباده طوعًا أو كرهًا - أن يقولوا التي هي أحسن وأطيب، فلا يحجر الإسلام على أحد، ولا يكره أحدًا على الدخول في عقيدته. الرسول الكريم كان خير مثال يقتدى به في التعامل مع الذميين، فقد أوجب على المسلمين أن يُراعوا الكرامةَ الإنسانيَّة التي وهبها الله تعالى للإنسان، فضلًا منه ورحمة، ولم يُفرِّق فيها بين المسلم وغير المسلم، وأكِّد على أن الناس كلهم أبناء أب واحد وأم واحدة، كما نادي الرسول صلى الله عليه وسلم في خُطْبته لحجة الوداع مُدوِّيًا ومجلجلًا: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضلَ لعربى على عجمي، ولا لعجمى على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، ألا قد أبلغت َُ؟». النبى «محمد» أقام مبادئ الإسلام وتعاليمه وقِيَمه كلها على احترام الكرامة الإنسانية وصونها وحِفْظها، وعلى تعميق الشعور الإنسانى بهذه الكرامة، حيث إن الإنسان في نظر الإسلام مُكرم، بصرف النظر عن أصله وفصله، دينه وعقيدته، مركزه وقِيمته في الهيئة الاجتماعية، فقد خلقه الله مُكرمًا، ولا يملك أحد أن يُجرده من كرامته التي أودعها في جِبلَّته، وجعلها من فِطرته وطبيعته، يستوى في ذلك المسلم الذي يؤمن بالقرآن كتاب الله وبمحمد بن عبدالله رسول الله ونبيه، وغير المسلم من أهل الأديان الأخرى، أو من لا دين له، فالكرامة البشرية حقٌّ مشاع يتمتَّع به الجميع دون استثناء، وتلك ذِروة التكريم وقمة التشريف، وأمر الإسلام أتباعه بالمحافظة على كرامة غير المسلمين ومراعاة مشاعرهم، ونهى عن جرح عواطفهم؛ فقال الله- عز وجل -: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» [العنكبوت: 46]. كفل الإسلام حرية الاعتقاد والعبادة، وترك الحبلَ على غاربه، ووكَل الأمر إلى أنفسهم؛ فقال الله - عز وجل -: «لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»، وذلك ينطبق على الأربعة أصناف من غير المسلمين، وهم «الكفار، وأهل الذمة وأهل الهدنة، وأهل الأمان»، حيث إن «الكافر» هو الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حرب، ولا ذمة له ولا عهد، أما «أهل الذمة» فهم المقيمون تحت ذمة المسلمين بدفع الجزية، وحُكْم أهل الذمة المعاهَدين الذين يُساكِنون المسلمين في ديارهم، ويدفعون الجزيةَ - أنهم يخضعون للأحكام الإسلاميَّة في غير ما أُقِرُّوا عليه من أحكام العقائد والعبادات، والزواج والطلاق، والمطعومات والملبوسات، ولهم على المسلمين الكفُّ عنهم وحمايتهم، أما «المعاهد»، فهو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة، وعن «أهل الأمان» فهو الحربى المقيم إقامة مؤقَّتة في ديار المسلمين، ولم يقم الإسلام على اضطهاد أي نوع من هؤلاء غير المسلمين، أو مصادرة حقوقهم، أو تحويلهم بالكُرْه عن عقائدهم، أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وتاريخ الإسلام في هذا المجال أنصع تاريخ على وجه الأرض. نصارى نجران التاريخ يشهد أن الفتح الإسلامى اعترف بالآخر ولم يُرغِم أي أحد على الدخول في الإسلام، وعندما توسعت رُقعة الدولة الإسلامية زمن النبي، كان هناك مجموعة كبيرة من القبائل المسيحية العربية، وبخاصة في نجران، فما كان منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن أقام معهم المعاهدات التي تتَّسِم باللين والرِّفق والتسامح حيث تؤمِّن لهم حرية المُعتقَد، وممارسة الشعائر، وصون أماكن العبادة، إضافة إلى ضمان حرية الفِكْر والتعلم، وورد في معاهدة النبى لأهل نجران الذين شهدوا للنبى صلى الله عليه وسلم: «ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبى رسول الله على أنفسهم ومِلَّتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وبِيَعهم وصلواتهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وألا يغيروا مما كانوا عليه بغير حق من حقوقهم ولا مِلَّتهم، ولا يُغيَّر أسقف عن أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وليس عليهم دنية ولا دم جاهلية، ولا يحشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقًّا، فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين، على ألا يأكلوا الربا، فمَن أكل الرِّبا من ذى قبل، فذمَّتى منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبى محمد رسول الله أبدًا حتى يأتى الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير مثقلين بظلم». عهد «المصطفى» مع نصارى نجران بلغ الذِّروة في تعامل الدولة الإسلامية مع دور العبادة هذه، إلى الحد الذي نَصَّ فيه على أن مساعدة الدولة الإسلامية لغير المسلمين في ترميم دور عباداتهم هي جزء من واجبات هذه الدولة؛ ولأن غير المسلمين هم جزء أصيل في الأمة الواحدة، والرعية المتَّحِدة لهذه الدولة، فجاء في هذا الميثاق مع نصارى نجران: «ولهم إن احتاجوا في مَرمَّة بِيَعهم وصوامعهم أو شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفد ومساعدة من المسلمين، وتقوية لهم على مرمَّتها - أن يرفدوا على ذلك ويُعاوَنوا، ولا يكون ذلك دَينًا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومِنَّة لله ورسوله عليهم». حقوق الذميين في الإسلام يكفل الإسلام حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، فيتوفَّر لهم التمتُّع بحماية الدولة الإسلامية، ويكونون في مأمن من كلِّ عدوان خارجى وظُلْم داخلى كالمسلمين الموجودين في داخل الدولة الإسلامية، ويجب على الحاكم أو ولى الأمر أن يوفر لغير المسلمين في المجتمع الإسلامى هذه الحماية بما له من سلطة شرعية، وما لديه من قوة عسكريَّة، حيث إنه جَرتْ عليهم أحكام الإسلام، وتأبَّد عقدهم، فلَزِمه ذلك كما يَلزَمه للمسلمين، فيحمى الإسلام عِرْض الذمى وكرامته، كما يحمى عِرْض المسلم وكرامته، فلا يجوز لأحد أن يَسُبه أو يَتَّهِمه بالباطل، أو يُشنِّع عليه بالكَذِب، أو يغتابه، ويذكره بما يكره، في نفسه، أو نَسَبه، أو خُلُقه، أو خَلْقه، أو غير ذلك مما يتعلَّق به. عقد الذمة يُوجب حقوقًا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا، وفى خفارتنا، وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام، فمَن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غِيبة في عِرْض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام، وقد مضى فيما سبق ما ورد في القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف من الوعيد الشديد على الظلم وعدم القيام بالعدل والقِسْط، ولا سيما إذا كان الظلم يتعرض له غير المسلمين من أهل الذمة والعهد والأمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَن ظلم مُعاهدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طِيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة». وأمر الإسلام أتباعه بأن يتعاملوا مع غير المسلمين معاملة قائمة على الرِّفق والسهولة والسماحة في جميع أمور الحياة وشئونها من البيع والشراء والأجرة والكراء؛ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «رحِم الله رجلًا سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى»، ويحضُّ على السماحة في المعاملة واستعمال معالى الأخلاق، والحض على تَرْك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم، فلغير المسلمين حرية العمل والكسب، بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط الاقتصادي، شأنهم في ذلك شأن المسلمين. وضمن الإسلام لغير المسلمين في ظلِّ دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يَعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهى مسئولة عن كلِّ رعاياها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ، وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهى مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ، وهو مسئول عن رعيته»، كما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه تَصدَّق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهى تجرى عليهم، وذُكِر عن أم المؤمنين صفية رضى الله عنها أنها تَصدَّقت على ذوى قَرابة لها كانوا يهودا.