عندما تشكلت لجنة الثلاثين التى وضعت دستور 1923 م، ثار زعيم الأمة سعد باشا زغلول على تشكيلها المعيب، حيث نادى بضرورة انتخاب أعضائها بدلاً من تعيينهم من قبل فؤاد الأول، وأطلق سعد على هذه اللجنة اسم "لجنة الأشقياء"، وقاطع الوفد اللجنة التى لو راجعنا أسماء أعضائها لاكتشفنا أنها ضمت 6 مسيحيين ويهوديًا وفتىً فى الخامسة عشرة من عمره ممثلاً عن الطلاب، وقد ضمت اللجنة التأسيسية لدستور 1923 أسماءً لامعة ومرموقة فى مجالات الثقافة والسياسة والقانون الدستورى، وتبقى المفارقة الأكثر طرافةً أن الوفد وزعيميه سعد زغلول ومن بعده مصطفى النحاس خاضا معارك ضارية؛ دفاعًا عن هذا الدستور فى مواجهة الانقلابات المتتالية التى شنتها حكومات الأحرار الدستوريين الذى- وللعجب - أسسه عدد من أعضاء اللجنة التأسيسية لدستور 1923. وبالعودة إلى وقتنا الحاضر، فإن دستور 2012 الذى وضعته لجنة المائة هو الأحق بوصف دستور الأشقياء، ستشقى به مصر وسيشقى به من وضعوه قبل من عارضوه، فقد أرادوا به تكبيل الحريات وجذب مصر ألف سنة إلى الوراء ولن يتم لهم ذلك إلا بوضع تشريعات تساعدهم في تحويل روح الاستبداد فى بعض مواد دستورهم إلى يد تبطش وقدم تسحق من خلال ترسانة قوانين، تقنن الجريمة، وتهدر الكرامة، وتحاصر الإبداع، وتئد أى معارضة فى مهدها، ومعرفتى الجيدة بتيارات الإسلام السياسى من خلال عشر سنوات من الممارسة السياسية، تجعلنى على يقين أنهم سيكونون أول من ينقلب على هذا الدستور الذى اقترفته أيديهم، بمجرد أن يشعروا أن بعض مواده التى كافح من أجلها المدنيون داخل اللجنة قبل انسحابهم منها، قد تقف عائقًا أمام افتراسهم لما تبقى من أوصال الدولة، وقتها قد يتحول رموز جهة الإنقاذ الوطنى من موقفهم المعارض للدستور إلى موقف المناضل ضد انتهاكه كما حدث من الوفد إبان 1923. ويكون التيار المدنى مُخطئًا لو تصور أن هذا الدستور هو منتهى أحلام الوهابيين فى مصر، فهو مجرد بداية لما هو أسوأ وأكثر توحشًا؛ ولأن التاريخ فى مصر حلقات متصلة، فلست أرى بدًا من إسداء النصح لقيادات كل من: جبهة الإنقاذ الوطنى، والتيار الشعبى، والأحزاب المدنية وعلى رأسها حزب الوفد، أن يستوعبوا درس 1923، وأن يقتدوا بزعيم الأمة سعد زغلول الذى لم يمنعه الاعتراض على آلية تشكيل اللجنة التأسيسية من خوض الانتخابات التشريعية التى أجريت بناءً على دستور 1923؛ ليفوز الوفد بأغلبية ساحقة فى برلمان 1924، وتبدأ فترة ذهبية فى تاريخنا الحديث التى عرفت بالفترة الليبرالية 1923 – 1952 م . وبإجراء عملية حسابية بسيطة لأعداد المشاركين فى استفتاء مارس 2011 واستفتاء ديسمبر 2012 والمصوتين ب"نعم" و"لا" فى كليهما، سنكتشف أن التيار الأصولى فقد جزءًا كبيرًا من شعبيته فى الشارع المصرى، ورهاننا الوحيد سيكون كسب هذه الكتلة لصالح الدولة المدنية وقيم الحداثة، وهو ما لن يتحقق بالمقاطعة، بل بمزيد من المشاركة وبقوة فى كافة المحافل وعلى كافة المستويات، إن لم تشهد مصر اجتياحًا للقرى والحوارى والنجوع فى أكبر حملة تنويرية فى تاريخها، سيكون الشعب هو أول الخاسرين، فالمعركة القادمة هى معركة السيطرة على البرلمان، ومن ثمَّ امتلاك سلاح التشريع، وهى المعركة الحاسمة ولعلها القاضية، فإما أن ننقذ هذا الوطن ونصعد به إلى مصاف الدول العظمى، وإما غرقنا جميعًا فى بحر الظلمات، أما دستور الأشقياء فهو ساقط لا محالة إن لم يكن بيد من عارضوه فعلى يد من وضعوه وهذه هى سنة التاريخ.