عرفت النظم السياسية أربعة أساليب لنشأة الدساتير، أسلوب المنحة من الحاكم الأوتوقراطي، وأسلوب العقد، وأسلوب الجمعية التأسيسية، وأسلوب الإستفتاء الشعبي. وهذا الأخير يعتبر أكثر الصور توافقاً وديمقراطية، حيث تتولى جمعية تأسيسية منتخبة وضع مشروع الدستور، ولا يصدر إلا إذا وافق عليه الشعب عن طريق الإستفتاء. وفي التجربة السياسية المصرية عرفت مصر دستور 1923، والذي يعتبر تتويج لنجاح ثورة 1919. ورغم أن دستور 1923 يعتبر من الدساتير البارزة في التاريخ السياسي المصري، إلا أنه بالرجوع إلي ملابسات نشأة هذا الدستور نجد أن (لجنة الثلاثين) التي قامت بوضع مشروع الدستور، قد قوبلت بالرفض الشعبي في بداية الأمر حتى أن سعد زغلول باشا (1858 – 1927م) قد وصفها في بداية الأمر ب (لجنة الأشقياء)! وذلك لأنها كانت لجنة حكومية معينة لا تعبر عن طوائف الشعب المصري. والحق أن رفض حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول باشا – والذي كان يعتبر زعيماً للأمة بأسرها في هذا الوقت – كان يعتبر رفض شعبي لهذه الجمعية المعينة. غير أنه من المفارقات التاريخية أن سعد زغلول وحزبه بعد اقرار دستور 1923 – رغم اعتراضهم على الجمعية التأسيسية الواضعة له – قد خاضا الإنتخابات البرلمانية، واكتسحا الإنتخابات البرلمانية، وتحول الوفد من (وكيل للأمة) إلي حزب أغلبية الأمة حيث فاز الوفد بأغلبية برلمانية وصلت إلي 90 %. وفي هذه الأيام يثار جدل كبير حول الجمعية التأسيسية الواضعة لدستور ثورة 25 يناير، والتي لا يمكن أن توصف بأي حال من الأحوال بما وصف به سعد زغلول لجنة دستور 1923 ب (لجنة الأشقياء) لأن لجنة (المائة) الواضعة للدستور تشكلت بموجب الإعلان الدستوري الذي تم استفتاء الشعب عليه في مارس 2011 بعد تعطيل العمل بدستور 1971 بسقوط نظام مبارك . ونص الإعلان الدستوري علي أن يقوم أعضاء مجلسي الشعب والشورى المنتخبين بانتخاب أعضاء جمعية تأسيسية من 100 عضو لكتابة دستور جديد في غضون ستة أشهر من تاريخ تشكيلها ويعرض مشروع الدستور خلال 15 يوماً من اعداده على الشعب لاستفتاءه في شأنه ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء. غير أنه من المثار إعلامياً اليوم أن (الجمعية التأسيسية) جمعية لا تمثل الشعب، وتقوم بعمل دستور يتوافق فقط مع رؤيتها هي ويتجاهل مطالب الشعب! فأرى أنه من المهم هنا هو استحضار شهادتين تكفينا في هذا المقام. الشهادة الأولى للأستاذ وائل قنديل – مدير تحرير جريدة الشروق – والتي ذكرها في مقاله (الحزن المزيف على الشهداء والدستور) فى شهادة وصفها بأنها للتاريخ، أكد فيها أن أعضاء بارزين فى الجمعية التأسيسية من رموز الليبراليين والقوى المدنية، أكدوا له أن مسودة الدستور التى انتهت إليها الجمعية من أفضل الدساتير فى تاريخ مصر، وسيخرج على نحو محترم من حيث المواد. وأضاف أنه طلب منهم الخروج للناس لتطمينهم بدلا من تركهم نهبا للمعارك الكلامية الصاخبة، وكان الرد أنهم يفضلون مواصلة الضغط على الجمعية التأسيسية لكى يحصلوا منها على الأفضل من حيث المواد والصياغات، خصوصا أنه لا يزال هناك جدل داخل الجمعية بشأن بعض المواد. والشهادة الثانية للدكتور أيمن نور والتي أكد فيها بأن المنسحبين من الجمعية شاركوا في إعداد أكثر من تسعين في المائة من مواد الدستور ، وهي أول شهادة من المنسحبين بأن الدستور الجديد توافقي في غالبيته العظمى . وبعيداً عن كل هذا الجدل واللغط الإعلامي، فالمطلوب اليوم من القوى السياسية هو تجاوز مسألة (الجمعية التأسيسة) والتركيز على القراءة الجادة والموضوعية لمشروع الدستور الذي سيطرح للإستفتاء الشعبي، والذي يفرض علينا نوعاً من الحوار الشعبي. وإذا كان التاريخ حفظ لنا أن (الأشقياء) كانوا سبباً في (سعادة) سعد وحزبه بعد أن فازا بالأغلبية البرلمانية، فهل سيحفظ لنا التاريخ أن بعض النُخب تتعامل الآن مع محاولات الإسلاميين لبناء النظام السياسي المصري الجديد بمقولة سعد زغلول الشهيرة (مفيش فايدة) ! أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]