فى كتيب رائع صادر عن (كتاب روزاليوسف) عام 1952م، بعنوان (محنة الدستور)، كتب الراحل الأستاذ «محمد زكى عبد القادر»، «وفى (إبريل سنة 1923) أُعلنْ الدستور، وبدأت الحكومة فى اتخاذ الإجراءات المعتادة للانتخابات، وتهيأت الأحزاب القائمة حينئذ لخوض المعركة، وهى (الوفد والأحرار الدستوريين والحزب الوطني) وكان (الوفد) قد عارض تصريح (28 فبراير) وحمل عليه حملة قاسية، وكان من مفهوم هذه الحملة أن يستمر على استنكار التصريح وما ترتب عليه، خاصة أنه حمل حملة شديدة على لجنة الثلاثين التى أعدت الدستور، ووصفها بأنها (لجنة الأشقياء). وكانت نظرية (الوفد) أن الدستور، وهو أب القوانين، وحامى الحقوق والحريات، يجب أن تضعه جمعية تأسيسية نتيجة انتخاب حر، بذلك لا يكون منحة من أحد أو عرضة للعبث والتعديل. ولما صدر الدستور انتقده الكثيرون فى مواضع متعددة ولكن هذه الانتقادات لم تتجاوز النشر فى الصحف أو الخطابة فى المجتمعات، وفهم من ذلك بأن الوفد سوف يشارك فى الانتخابات، وقد ورد على لسان «سعد زغلول» أن الاستنكار شىء والتنفيذ شىء آخر. وتولت وزارة »يحيى إبراهيم« إجراء الانتخابات، ودخلتها الأحزاب المشار إليها وفريق كبير من المستقلين، وجرت فى جو مشبع بالحرية الكاملة، ولم يسمح لأحد من رجال الإدارة بالتدخل، واكتسح الوفد المعركة اكتساحاً لم يسبق له مثيل، وجاءت النتيجة مفاجأة لكل المراقبين السياسيين، ورغم أن الانتخابات جرت على مرحلتين، فإن المرشحين الوفديين فازوا فى أكثر الدوائر, ولم تحصل الأحزاب الأخرى إلا على مقاعد محدودة لا تتجاوز عشرين دائرة من إجمالى 216 دائرة. وكانت هذه الانتخابات بمثابة حكم أصدره الشعب على القيم الحقيقية للأحزاب، والقوى التى تقدمت تلتمس ثقته، وبدا أن (الحزب الوطني) لا أنصار له تقريباً، فيما عدا بضع دوائر فاز فيها أشخاص من ذوى المكانة الخاصة، وكذلك كان حزب »الأحرار الدستوريين« رغم أن أعضاءه من كبار ملاك الأراضى والولاء لهم شُبِهَ بالولاء الإقطاعي، فلم يفز الحزب بغير بضعة عشر كرسياً . وكان البرلمان الأول الذى عقد فى سنة 1924 أول مظهر نظامى لبروز سلطة الشعب كقوة مؤثرة فى الحكم، بل كالقوة الوحيدة التى لها حق الحكم، وكان هذا تطوراً عميقاً دل على أن الشعب نما نمواً كبيراً، وأضحى على الرغم من كل القوى التى حاربته ووقفت دونه، القوة الأولى المرهوبة الجانب، ولكن هل كان كذلك حقاً؟ من حيث الواقع الظاهر، نعم .. ومن حيث نص الدستور، نعم .. ومن حيث دعوة زعيم الأغلبية »سعد زغلول« لتولى الحكم، نعم.. ولكن الواقع أن قوى كثيرة على رأسها الاحتلال البريطاني، والقصر الملكى والإقطاعيون الذين فقدوا سطوتهم بسقوطهم فى الانتخابات، والتيار الثقافى من شعب مصر الذى وقف ضد الوفد. كانوا فى الجانب الآخر، مهما يكن من أمر، فقد بدأت حكومة » سعد زغلول« والذين لا يعرفون التيارات الخفية التى أسلفنا الإشارة إليها، أن الأمر استقام، وأن الاحتلال سينتهى والسراى ستخضع، والمترددين والخائنين سيغرقهم موج الشعب الطاغي، وبدأ التعدى على الدستور فور إعلان وزارة «سعد زغلول، فى (28 يناير 1924)، ولهذا حديث آخر، انتهى مقال الأستاذ «محمد زكى عبد القادر». ولعلنا ونحن نستعيد التاريخ فى حقبة من حقبات مصر الوطنية، وعقب ولادة أول دستور فى حياتنا وهو دستور 1923، عقب ثورة (1919)، نجد أن هناك خطى مشت عليها الحركة الوطنية المصرية، منذ أكثر من ثمانين عاماً، ومع ذلك مازلنا نتعثر اليوم بعد ثورة (25 يناير)، ونتعذر بحجج وكثير من الأكاذيب والمناورات واللف والدوران وكأننا لا نقرأ ولا نكتب، وأمية التاريخ سائدة فى الوطن!