فى أى مجتمع غير المجتمع المصرى، يتم التعامل مع شخصية البابا، كونها رمزاً دينياً لا أكثر، ولكن فى مصر يتعدى وضعه ذلك بكثير، فالشارع المصرى ومنذ آلاف السنين متدين بالفطرة، ويتمتع رجال الدين فيه بثقل كبير وأهمية لا يستهان بها، حيث يتقاسم كل من الدين والسلطة الساحة السياسية، فلا انفصال للدين عن السياسة. ومن هنا اكتسب منصب البابا أهمية لا يستهان بها، لما له من تأثير قوى على الأقباط، وبالتالى على المجتمع بشكل عام، مما يقودنا إلى أهمية الطبيعة الشخصية لمن سيجلس على المقعد البابوى، والصفات النفسية له، والتى تحدد اتجاهاته فى قيادة أقباط مصر.. وفى حالة البابا شنودة الثالث، فهناك اختلاف على شخصيته، حتى بين الأقباط أنفسهم، فمنهم من كان يقتنع بكل آرائه، ومنهم من اتهمه بالسلبية، وطالبه بأن يتمتع بالمزيد من الإيجابية فى مواجهة المشكلة الطائفية فى مصر!!، وما بين هذا وذاك، ظل قداسة البابا شنودة الثالث خلال الأربعين عاماً الماضية، وحتى الرحيل، جالساً على قمة الهرم الأرثوذكسى فى العالم. رمز دينى... الدكتور مكرم شاكر إسكندر، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، يرى أنه يجب أن تتوافر مقومات أساسية لعمل تحليل نفسى سليم، لأى شخص، وهى لم تكن متوفرة فى حالة البابا شنودة، الذى كان رمزاً دينيا تعامل معه الجميع فى إطار معين ومحدود، ولكن يمكن أن نتحدث عن بعض صفاته الشخصية، وكان معروفا عن قداسة البابا شنودة خفة الظل وسرعة البديهة، كما أنه تميز بالاعتدال فى قراراته، وهو اعتدال نابع من وطنيته وحرصه الشديد على التئام شمل الأمة، وكان ملاذ الأقباط الآمن. بينما يعتقد الدكتور قدرى حفنى، أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، أنه من غير اللائق استخدام تعبير تحليل شخصية مع رمز دينى كالبابا شنودة، ويعتقد أنه من الأكثر لياقة الحديث عن موقفه من القضية الوطنية، وهى النقطة الأهم فى المجتمع المصرى!!..
وطنى حتى النخاع... يرى الدكتور قدرى حفنى، أن موقف البابا شنودة من القضية الوطنية، كان موقفا لا ينازعه فيه أحد، فقد اتخذ موقفا قاطعا ضد التدخل الأجنبى، حتى لو كان بزعم حماية الدين، كما رفض مبدأ التحقيق الدولى فى المأساة التى حدثت فى ماسبيرو، رغم ارتفاع أصوات كثيرة تطالب به، ويعتقد الدكتور حفنى أن السبب فى إصرار البابا على هذا الموقف الذى يحسب له، هو رفضه أن يكون شق الصف الوطنى المصرى على يديه. كما يؤكد الدكتور مكرم شاكر، أن البابا شنودة جاء من مدرسة النقاش الفكرى والإصلاح الدينى، وهى مدرسة تقاوم أفكارا هدامة كالعنف الدينى وعدم التسامح وخضوع الدين للسلطان.
عقلانى متزن... أما الدكتور هاشم بحرى، رئيس قسم الطب النفسى بجامعة الأزهر، فيقول إنه للحديث عن شخصية البابا شنودة يجب أن نتتبع تكون تلك الشخصية منذ البداية، فقد كان شنودة ومنذ البداية، شخصا مهتما بالتعليم، سعى إلى تزويد قدراته، والاهتمام بالتعليم يعطى القدرة على التفكير المنطقى ويساعد الإنسان على تحديد أهدافه، والسعى إليها. ويمكن أن نقسم مراحل تكون شخصية البابا شنودة إلى ثلاث مراحل، وهى: سعيه إلى استكمال تعليمه فى البداية، حيث تخرج فى كلية الآداب، وأصبح صحفيا وكاتباً وشاعراً.. المرحلة الثانية.. تمثلت فى اتجاهه إلى المسلك الدينى ودراسته للكهنوت واللاهوت، والذى تفوق فيه وتميز.. أما الثالثة.. فكانت حين ترقى وحاز رضا المجلس الكنسى الأعلى، حتى جلوسه على عرش مارى مرقس الرسول. يؤكد الدكتور هاشم بحرى أن هناك موقفين يمكن من خلالهما إلقاء الضوء بشكل أكبر على شخصية البابا شنودة.. الموقف الأول.. عندما أخذ عليه تمييزه للمسيحيين ضد مصلحة الوطن فى موقفه المشهور مع السادات، والذى أدى إلى صدور قرار بعزله ووضع مكانه متى المسكين، الذى رفض بدوره تولى المنصب، مما أوضح وقتها عدم إمكانية نزع السلطة الدينية، وبالتالى عاد مرة أخرى إلى منصبه.. والموقف الثانى.. أوضحته بعد ذلك كتاباته وسلوكياته، وهو أنه كان يتمتع بأبعاد متعددة من المعرفة فى مجال الدين وعلم الاجتماع، والفهم الحقيقى لكيفية نزع فتيل الفتنة عن طريق التفهم لنوعيات المشاكل، ووضع حلول منطقية لها دون التنازل عن حقوق المسيحيين.. كما أنه تمتع بسرعة البديهة، وقدرة على الفهم السريع، والربط الألمعى الذكى، وكان إنسانا متزنا، صوته هادئ ملىء بالثقة ووجهه يعبر عما داخله وما يشعر به نراه فى تعبير الحزن الشديد عند حزنه وفى الوجه الطفولى شديد البراءة وقت شعوره بالسعادة.يتمتع بقدرة على أن يأسر من حوله ويجذبهم بسهولة وهذه الخاصية جزء منها موهبة والجزء الآخر نتيجة تدريب عال من جانبه، كما يشير الدكتور هاشم إلى أن البابا شنودة كثيرا ما تعرض لأزمات صحية لكنه لم يتحدث عنها أبدا أو يتطرق إليها بالذكر حتى عند إجراء اللقاءات التليفزيونية معه كان يفضل أن تكون صورته لدى الناس من خلال أقواله وأفعاله وليس من خلال تعاطفهم معه. أهم بطاركة العالم الدكتور مصطفى الفقى يرى أن الراحل البابا شنودة استطاع أن يجذب إليه قلوب المسلمين قبل المسيحيين بتصرفاته وعبقريته على التحكم فى جميع المواقف فكان يوصى بضرورة حسن التعامل مع المسلمين ونبذ العنف ورفض الفتن، كما أنه عرف بوطنيته والتى فاقت طائفيته كما أنه كان يبهرنا بعلمه عندما كنت مسئولاً عن الاتصال بين الدولة والكنيسة فى العقدين الآخرين وكان يبذل كل وقته لخدمة بلده ودعمه لعملية السلام وحرصه على التعامل مع المسلمين وعمله للأفطار الجماعى للمسلمين والمسيحيين فى رمضان وحرصه على حضور هذا الإفطار والذى تحضره جميع قيادات الأزهر والكنيسة لا يرفض الحوار الوطني.ويضيف بقوله برع البابا فى الأدب فقد ترك لنا أكثر من مائة كتاب تتحدث عن السلوكيات والعبادات الروحية والأخلاق كنا نعرف أنه مهتم بجميع قضايا الشباب وله العديد من الكتب المترجمة للعديد من اللغات فهو صاحب مقولة: «إن مصر ليست وطنا نعيش فيه بل وطن يعيش فينا» كما أنه كان يمتلك حسا وطنيا رفيعا يعكس هويته ووطنيته وحبه وكان مهتما بالعديد من المشاكل الخاصة بقضايا الإنسان العربى حتى الكثير من الدول العربية أطلقت عليه «بابا العرب» كما أنه حظى باهتمام كبيرمن جانب الغرب وكانوا يهتمون بزيارته لبلادهم حيث يستقبلوه استقبالاً كبيراً ووصفوه بأنه أهم بطاركة العالم ودعوته المستمرة إلى أن يعيش العالم فى تسامح وسلام.ويكشف الفقى أن أهم ما كان يميز البابا تسامحه وهدوءه فى تقييم كل الأمور بعقله وعاطفته، كما أنه كان له مواقف عديدة أسهمت فى نشر السلام بين شعوب العالم وكنت أرى ذلك بشكل واضح فى العديد من المؤتمرات أو اللقاءات التى كانت تجمعنا فى مكان واحد ودفاعه عن القضية الفلسطينية والتى كان يعتبرها جريمة واعتداء على حرمة كل الدول العربية، كما أنه كان يرفض تهويد القدس أو القبول بسيادة إسرائيل عليه، كما أنه أدان الانتهاكات التى شنتها الصحف الدنماركية والغربية بنشرها صورة مسيئة للرسول محمد واعتبر أن السخرية من الرسول صلى الله عليه وسلم تعد اعتداء على المسلمين واستفزازا لمشاعرهم وهو ما ترفضه جميع الحضارات، موضحا أن رسالته كانت تقوم على مبدأ نشر الخير والمحبة على الأرض ونشر السلام وأنه كان دائما يقول: «إننا كلنا متدينون فالمسلم متدين والمسيحى متدين ولكنا نعبد الله ونحب الفضيلة والخير وعلينا أن نعمل معا وأن نتحاور وأن يقبل كل منا الآخر»، كما أنه دعا جميع الأقباط بضرورة المشاركة فى الحياة السياسية والذهاب للانتخابات واختيار الأصلح دون النظر إلى توجهه الفكرى والسياسى سواء كان إخوانيا أو سلفيا فالمهم مدى قدرته على نفع البلاد وحماية مصالحها. سياسي الدكتور عبد المعطى بيومي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، يوضح أن البابا شنودة اهتم بالجانب السياسى بشكل كبير وأوضاع البلاد السياسية وعلاقتها مع الدول والسلام مع أنه لو ركز أكثر على الجانب الروحى لكان أفضل. صمام أمان أما الشيخ فوزى الزفزاف، عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر الأسبق، فيقول إنه منذ تولى البابا شنودة ونحن نرجو له التوفيق وأن يحمل رسالة السلام إلى جميع الطوائف ونبذ العنف وإقامة الوحدة الوطنية خاصة أنها هى صمام أمان وقوته وقوته.