لم يعد أحد في مصر يستحق أن نحمله على أكتافنا إلا أنبوبة البوتاجاز! الكاتب الذكى هو الذى يحترم القارئ أكثر من رئيس التحرير فى ظل المشهد السياسى،الذى تعيشه مصر الآن،نفتقد إلى ساخر كبير،مثل:«جلال عامر»، الذى إن انتزعه الموت منا،قبل أقل من عام،فإن سخريته التى لا تعرف الابتذال،لا تزال حاضرة،وبقوة، تشخص حالة وطن،أعياه حكامه،قبل الثورة،وبعدها.. بأخلاق أولاد البلد،استقبلنى حكيم الثورة ، ورحّب بى،فأطلعته على جانب كبير من الأحداث الراهنة،فباغتنى بقوله:«لن يتغير شئ ما داء الرئيس محمد حسنى مبارك،يحكم مصر»،فإذا به يختصر جراح مصر النازفة منذ الثورة،بهذا التعليق المدهش»،وكأنه يؤكد ألا شئ تغير تحت شمس المحروسة،فمرسى،لا يختلف قيد أنملة عن مبارك،ونظام «الحرية والعدالة»،يشبه نظام «الحزب الوطنى» تماما! «جلال عامر»،الذى أسس مدرسة في الكتابة الساخرة، تعتمد على التداعى الحر للأفكار والتكثيف الشديد، رفض أن يُطلق عليه وصف «الكاتب الساخر»، وعندما سألته:لماذا؟ أجابنى: «لأنها مهنة من لا مهنة له، وأنا كنت «كاتب عادى» على باب الله». ارتبطت كتابات « جلال عامر» بالمواطن البسيط لأنه كان يرى نفسه واحدا منهم،حيث عرّف نفسه لى،فى مستهل الحوار بقوله: « اسمى «جلال» وفى البيت ،»قبل ما أموت»،كان اسمى «المخفى»، وأنا أول مواطن يدخل قسم الشرطة ،ويخرج حياً.. وأنا المصرى الوحيد الذى كتبت فى إقرار ذمتى المالية أن عندى «حصوة»، فأنا لم أكن أمتلك «سلسلة مطاعم» بل فقط «سلسلة ظهرى» وسلسلة كتب، عندى بطاقة تموين حمرا خالية من الدهون، لأن البقال كل شهر يسرق الزيت، ولا أصرف معاشاً بسبب عيب خلقى، وأخوض معكم حرب الثلاث وجبات، وأرتدى بيجاما مخططة، ولعلها الشئ الوحيد المخطط فى هذا البلد العشوائى،وأؤمن أن أعظم كاتب فى البلد هو «المأذون» وأن مصر بخير ولا ينقصها إلا أكلة «جمبري» على البحر».. بصراحة،وجدتُ ذهن «جلال عامر»،متقدا ومتألقا،فقررت أن أترك له المجال يتحدث كما يشاء،دون مقاطعة منى،إلا قليلا جدا.. فى البداية،تحدث «عامر» عن الحزب الوطنى المنحل،فقال: «إن من أضرار القنبلة الذرية وفاة 100 ألف مواطن بالانفجار، وإصابة ربع مليون مواطن بسرطان الإشعاعات وتبوير نصف مليون فدان، ومائة مليار جنيه خسائر مادية، ورعب نفسى يستمر عشرات السنوات، بينما من أضرار الحزب الوطنى: وفاة 200 ألف مواطن بالأغذية المغشوشة، وفيروس سى، واحتراق القطارات، وانهيار الصخور، وإصابة نصف مليون مواطن بسرطان المبيدات، وتبوير 3.5 مليون فدان وسرقة ونهب 500 مليار جنيه، واستمرار الطوارئ 30 عاماً.» ويرى «عامر»-حسبما أخبرنى- أن»مشكلة المصريين الكبرى أنهم يعيشون في مكان واحد لكنهم لا يعيشون في زمان واحد». وعندما سألته عن كتابه الأخير «مصر على كف عفريت»،والذى لم يسعدنى الحظ فى الحصول على نسخة منه؟ أجابنى «عامر»:»هو محاولة لبحث حالة وطن، كان يملك غطاء ذهب، فأصبح من دون غطاء بلاعة»،ثم منحنى نسخة ممهورة باسمه. قاطعته هذه المرة: لماذا وكيف؟ فقال:« بدأت مصر بحفظ الموتى، وانتهت بحفظ الأناشيد، لأن كل مسئول يتولى منصبه يقسم بأنّه سوف يسهر على راحة الشعب، من دون أن يحدد أين سيسهر وللساعة كام؟ في مصر لا يمشي الحاكم بأمر الدستور، بل بأمر الدكتور، ولم يعد أحد في مصر يستحق أن نحمله على أكتافنا إلا أنبوبة البوتاجاز، فهل مصر في يد أمينة أم في إصبع أمريكا أم على كف عفريت؟». قلت:لكنك كنت تحب مصر،فقاطعنى ساخرا:«كم ذا يكابد عاشق ويلاقى.. فى حب مصر كثيرة العشاق.. ففى مصر يتفوق سعر الطماطم على سعر التفاح، وتصبح محاكمة المدونين أسرع من محاكمة الفاسدين، وتنجرف البورصة، وتنحرف البوصلة، وتضىء فى الظلمة العصا الكهربية ،وانتفاضة الشتاء قد يظهر عليها بعض أمراض الصيف، لكن ثورة الشباب لا تعانى شيخوخة مبكرة، وتدرك أن الشعب والجيش توأم ملتصق وأى محاولة للفصل بينهما سوف تسيل الدماء ولا نضمن النتيجة، ونحن لا نزرع الشوك، ولكن نستورده من بعض الأشقاء الذين قطفوا عندهم الياسمين ويريدون أن يقطفوا اللوتس.. والأقوال غير الأفعال، فمنذ أربعين عاماً وبالتحديد «1971-2011» والدستور ينحاز بشدة إلى العمال والفلاحين، بينما الدولة تنحاز بضراوة ضدهم لأن المخرج، وليس المصور هو الذى يحدد زوايا التصوير». سألته:وكيف ترى مهمة المواطن فى الظروف الحالية؟ فأجابنى: «أصبحت مهمة المواطن صعبة، فعليه أن يحافظ على حياته من البلطجية، وأن يحافظ على عقله من السياسيين..و المشكلة ليست فى أنه لا يوجد حل، ولكن المشكلة أنه لا أحد يريد الحل». قلت:وماذا يفعل الشعب إزاء غباء حكامه؟ فقال «عامر»: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يهاجر فوراً». رآنى «عامر» متجهما،فنصحنى قائلا:» لا تبحث عن النكد، اطمئن، فهو يعرف عنوانك»! سألته عن رأيه فى المجتمع المصرى،فأدهشنى بقوله:«مجتمع لا يهمه الجائع إلا إذا كان ناخباً ولا يهمه العارى إلا إذا كانت امرأة». قلتُ له:بحكم وجودك فى ميادين مصر أثناء الثورة،هل بالفعل كان للإخوان دور فيها،كما يقول الرئيس محمد مرسى،فأطلق ضحكة مدوية،أعقبها بقوله: «الإخوان انضموا للثورة يوم انضمام الجيش لها 28 يناير، ثم انصرفا معا عنها فى نفس التوقيت»،ثم صمت قليلا،وبعدها قال:«على فكرة، الثورة قامت ضد "محمد حسنى مبارك"، لكنها أطاحت ب "محمد البرادعى"،ثم تسأل حضرتك البحر بيضحك ليه؟ طبعاً بيضحك علينا». سألته: برأيك كيف تتقدم مصر؟ فقال:إذا اهتمت مصر بالبحث العلمى فسوف تتمكن خلال سنوات من إرسال أول مركبة فضاء إلى القمر، وطبعاً ستكون فيها كتيبة أمن مركزى!!فالعلم هو الباب الملكى لعبور بحر الظلمات الذى نعيش فيه، ويجب أن نهتم بالبحث العلمى أكثر من البحث الجنائى فالأمم تتقدم بمراكز البحث وليس بمراكز الشرطة». على ذكر الأمن المركزى والشرطة،سألت «عامر»،عن السبب فى الفوضى،والسبب فى الثورة،فاختزل الإجابة بقوله: «غياب الأمن يصنع الفوضى وغياب العدل يصنع الثورة». قلت:كان لك رأى عن سارقى البنوك،أتذكره؟ فقال:طبعا،وأعتقد أن لسان حالهم جميعا يقول:«وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أسرق ودائع البنك وحدى، وحماة الأهرام في ساعة العصر خدونى المطار وقالولى عدى»! قلت له: بم تنصح المصرى؟ فقال : أنقل عنى إليه قولى:»عدوك ليس السلفى أو القبطى أو اليهودى، لكن عدوك فى الداخل هو الجهل وفى الخارج هو إسرائيل». قلت: باعتبارك عاصرت الفترة الانتقالية،ما تقييمك لها؟ فقال: «من إنجازات الفترة الانتقالية أن رمضان انتهى فى موعده». قلت ل»جلال عامر»:هل لاتزال مصر دولة زراعية؟ فقال بملء فيه:نعم،فهى «من زرعت التيار الدينى داخل الجامعة، ثم زرعت الحرس الجامعى ليراقبه على طريقة الشىء لزوم الشيخ، والأمن فضلوه عن العلم». قلتُ:الشارع لا يزال مشتعلا،ضد الرئيس الجديد حتى أنه يطالب بإسقاطه،فقال «عامر»:»لا تلوموا الذين يرفعون سقف المطالب، ولوموا الذين يرفعون سقف العناد»! قلت:ما الفارق بين النظام السابق والنظام الحالى؟ فأدهشنى بسرعة رده: «النظام السابق والنظام الحالى طبق كشرى وكمالة..والشىء الوحيد فى مصر الذى نتقدم فيه، هو السن». قلت: ما رأيك فى الحكام العرب؟ فقال:«يتحدثون مع الأعداء بالشوكة والسكينة ومع الشعوب بالشوم والعصا والأسلحة الثقيلة». قلت:برأيك،من هو الكاتب الذكى؟ فأجاب: «الكاتب الذكى هو الذى يحترم القارئ أكثر من رئيس التحرير»! قلتُ:باختصار يا أستاذ «جلال»: ما أفضل حل لما نعانيه الآن؟ فقال: «أن يتنحى الرئيس محمد حسنى مبارك عن الحكم». قلت:باعتبارك رجلا عسكريا،ألم تستفد شيئا من نظام مبارك؟ فأجاب فى ثقة:» أعظم ما تعلمته من نظام مبارك هو: كيف ينهزم وطن دون أن يحارب، وكيف يتحلل مجتمع دون أن يموت..لقد تركنا «مبارك» عرايا واكتسى هو.. جوعى وشبع هو.. فقراء واغتنى هو.. مرضى وعولج هو، وعندما قمنا بالثورة لنحقق العدل، تحقق له هو»! قلت:أعلم أنك كنت «حبيّب قديم»،فدعك من الثورة والسياسة،ولنتحدث عن الحب.. حينئذ..انبسطت أسارير «جلال عامر»،وتهلل وجهه،ثم تحدث قائلا: «عاصمة العالم هى المدينة التى تسكن فيها حبيبتى.. معظمنا عرف الحب من أول نظرة ودون نظارة، وعندما ارتدى النظارة أعاد النظر فيمن أحب فحاول أن تعيد حساباتك فى العام الجديد.. و ثلاثة إذا ذهبوا لا يعودون، الحب والعمر وأموال البنوك». قاطعته:ولكن بعد الزواج،قد يتحول الحب إلى عداء،حتى أن الزوجة قد تسئ إلى زوجها وتتهمه بأن ذوقه سيئ،فقاطعنى هو هذه المرة وبلهجة شديدة السخرية:»عندما تتهم المرأة زوجها بأنه قليل الذوق تنسى أنه اختارها بذوقه». سألته:هل لديك أقوال أخرى؟ فأجاب «جلال عامر»:» أيوه من فضلك، مفيش حد بيحاسب حد هنا ،واللا أسيب الحساب وأمشى؟!» C V وُلد «جلال عامر» يوم 25 سبتمبر سنة 1952 . تخرج فى الكلية الحربية وشارك في ثلاث حروب وكان أحد ضباط حرب أكتوبر. يُعد أحد أهم الكُتاب الساخرين في مصر والعالم العربي . توفي يوم 12 فبراير سنة 2012 أثر أزمة قلبية أثناء مشاركته في مظاهرة مناهضة لحكم المجلس العسكرى.