الحديث عن العدالة الناجزة والوقوف على عوائقها والحلول الممكنة لمواجهة المشاكل القضائية، لا يمكن أن يمر دون إجراء حوار مع المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق، باعتباره قامة قضائية لها ثقلها وتاريخها الذي لا يغفله أحد. في حواره مع «فيتو»، أكد المستشار الجمل ضرورة استقلال القضاء عن سلطة وزير العدل، وأن مصر تحتاج لثورة تشريعية في ظل وجود 36 ألف تشريع، الكثير منها لا يتناسب ومتطلبات المرحلة بل وبعضها يمكن اعتباره من الطرائف، وشدد الجمل على أنه لا بد من الاستعانة بالنظام الإلكترونى في المنظومة القضائية، مشيدا بالتجربة الفرنسية والتي يراها النموذج الأمثل والأنسب لمصر. النقص العددى للقضاة، يعتبره «الجمل» من المعوقات، إذ من الممكن أن ينظر القاضى أكثر من 200 قضية في الجلسة الواحدة، مما يؤثر على الأحكام الصادرة وطول فترة نظر القضايا، مشيرا إلى أن القضاء العادى يحتاج إلى 25 ألف قاض، وفى الوقت نفسه يحتاج مجلس الدولة إلى 5 آلاف قاض.. وإلى نص الحوار: بداية.. ما أهم المشاكل التي تواجه القضاء من وجهة نظرك؟ أهمها أن لوزير العدل سلطات واسعة على السلطة القضائية، ومن شأنها السيطرة على القضاء، فعلى سبيل المثال قانون الإجراءات الجنائية ينص على أن النائب العمومى ووكلاءه ونوابه تابعون لوزير العدل، ولا بد من الإشارة إلى أن النيابة في الدول المتقدمة يفترض أن تكون سلطة اتهام والقاضى سلطة تحقيق، وهذا الوضع كان قائما في مصر منذ عام 1950، لكن النظام الناصرى منح النيابة سلطة التحقيق مع الاتهام، فأصبح وجود قاضى التحقيق عملية استثنائية تتم بموافقة المحكمة. تكمن المشكلة الرئيسية في تبعية النيابة العامة، ولو نظريا، لوزير العدل الذي يعتبر عضوا في السلطة التنفيذية، كما ينص قانون الإجراءات الجنائية على أن وزير العدل يختار ويعين رؤساء المحاكم الابتدائية، ويتحكم أيضا في إدارة صندوق الخدمات الطبية والاجتماعية للقضاة، ومن اختصاصه أيضا لجنة الصلاحية، وهى اللجنة التأديبية التي يحال لها القضاة المنسوب لهم أخطاء، ولذلك فعلى رأس المطالب الأساسية للقضاة أن يتحقق استقلالهم بنقل كل هذه السلطات للمجلس الأعلى للقضاء، وأن يعامل وزير العدل كوزير دولة بالنسبة للسلطة القضائية. وماذا عن بقية معوقات العمل القضائي؟ المشكلة الثانية أنه لا يزال العمل يجرى بالوسائل التقليدية، وكتابة محاضر الجلسات تعتمد على سكرتير يستخدم الورق والأقلام، كما أن الجلسات لا تسجل إلكترونيا، والاتصال بين المحاكم يتم على الأكثر من خلال الاتصالات الهاتفية، ولا توجد فاكسات لتبادل المعلومات بين المحاكم، ولا توجد قاعدة بيانات على الحاسب الآلى تتضمن معلومات عن القضاة والمحاكم والجلسات، بحيث يتم الاستفادة منها في كل ما يتعلق بأمور القضاة، حيث إن القضاء المصرى لا ينتفع بالنظام الإلكترونى بصفة عامة على عكس دول العالم المتحضر، وأذكر أننى عندما كنت رئيس مجلس الدولة وقعت بروتوكول تعاون مع الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة لتنفيذ نظام عمل إلكترونى بمجلس الدولة، وأتمنى ألا يكون تم إنهاء هذا النظام من خلال تدخلات بعض المستشارين والموظفين المعارضين للفكرة، فالموظفون يريدون أن يكون لهم دور ونفوذ، بحيث يلجأ لهم كل مواطن يريد الحصول على محضر الجلسة، إضافة إلى أن العمل الإلكترونى سوف يجبر المستشارين على احترام ترتيب وأدوار القضايا، لتتم مناقشتها على أساس أسبقية التقديم. وهناك مشكلة ثالثة تؤثر على القضاء المصري، وهى عملية اغتيال القضاة وأبنائهم والعدوان على المحاكم من جانب الجماعات الإرهابية، لذلك من الضرورى استحداث شرطة قضائية تابعة للمجلس الأعلى للقضاء وليس لوزير العدل أو الداخلية، ويكون من ضمن اختصاصاتها مراعاة تنفيذ الاحكام الجنائية. ما أفضل التجارب الدولية التي يمكن الاعتماد عليها لتحويل القضاء للنظام الإلكترونى؟ من الممكن الاعتماد على تجارب كل الدول الأوربية المتقدمة، لكن الأفضل والأنسب التجربة الفرنسية لأن نظامها قريب من النظام المصرى إلى حد كبير، كما أن القضاء لديهم يستفيد من النظام الإلكترونى بشدة. ماذا تقترح من إجراءات تساعد القضاء على القيام بدوره ؟ من الضرورى توفير نسخ من الجريدة الرسمية للقضاة دون مقابل وفى أسرع وقت ممكن؛ لأن القاضى يحتاج إلى قراءة القوانين وفهمها جيدا ليتمكن من إصدار الأحكام. ولا بد من تضمين كل محكمة مكتبة قانونية، ولو حتى إلكترونية بحيث تكون القوانين موجودة على الأسطوانات الإلكترونية، حتى لا يتعطل القاضى عن إصدار الأحكام. يشكو الجميع من طول فترة نظر القضايا حتى صدور الأحكام فيها.. فما السبب في هذا التأخير ؟ يحدث ذلك في الغالب وبدرجة كبيرة في قضايا الإرهاب التي تضم العشرات أو المئات من المتهمين في القضية الواحدة، نتيجة كونها جرائم جماعية مثل قضية التخابر أو قضية كرداسة أو قضية الاتحادية، وفى الوقت نفسه تنص قواعد القانون الجنائى والقواعد الدستورية على أنه لا توجد جريمة ولا عقوبة إلا بالقانون، وبالتالى فلا بد أن يكون الدليل على ارتكاب المتهم للتهمة دليلا يقينيا ليس به شك، وعند وجود شك بالقضية يصدر الحكم بالبراءة، وفى حالة كون القضية بها أكثر من 100 شخص متهم سواء بالحرق أوالقتل أوالتخريب مثل قضية كرداسة، يحرص القاضى فيها على تحقيق المبادئ السابقة بالنسبة لكل متهم، وبالتالى تعامل القضية كأنها 100 قضية. الأمر الثانى الذي يتسبب في طول أمد التقاضي، أن المتهمين دائما ما يحاولون تعطيل الحكم في القضايا، بتقديم طلبات برد المحكمة دون مبرر بعد عدد من الجلسات، مما يؤدى إلى استغراق وقت طويل. ومن الأسباب التي لا يمكن إغفالها، تعرض الشهود لتهديدات خاصة في قضايا الإرهاب بهدف إفشالها. وبالنسبة للتباطؤ في إصدار الأحكام.. كيف يمكن القضاء عليه ؟ من خلال تعديل قانون الإجراءات الجنائية، وتعديل قانون المرافعات، ليتغير الوضع الحالى لوزير العدل باعتباره عضوا في السلطة التنفيذية، وبالتالى فلا بد ألا يكون له دور في السلطة الجنائية. زيادة عدد القضايا.. هل له تأثير على قرارات القضاة ؟ بالطبع يؤثر زيادة عدد القضايا في الجلسة الواحدة على القرارات، فيتم تأجيل القضايا أو الطعن عليها أو الاستئناف، مما ينتج عنه خلل في كثير من الأحيان، بينما إذا كان عدد القضايا التي تنظر في الجلسة الواحدة قليلا يمكن للقاضى الرجوع للقوانين والفتاوى القانونية والتمعن لإصدار حكم دقيق عادل، ولذلك لا بد من تعيين المزيد من القضاة، وتكون الأولوية للمتفوقين من خريجى كليات الحقوق، وسبق لى أن عينت أثناء عملى رئيسا لمجلس الدولة ما يقرب من 130 خريجا من أوائل كلية الحقوق دون النظر لمهن آبائهم، فلا بد أن تبتعد التعيينات عن أي أسلوب غير شرعى، حتى تصل مصر لمستوى الدول المتقدمة التي يتراوح عدد قضايا الجلسة الواحدة فيها ما بين 10 و20 قضية. كم عدد القضاة المطلوب تعيينهم لحل هذه الأزمة ؟ القضاء العادى يحتاج إلى ما لا يقل عن 25 ألف قاض، بينما يحتاج مجلس الدولة إلى 5 آلاف قاض. هل القضاء بحاجة إلى زيادة عدد المحاكم أيضا؟ بالتأكيد.. نحن في حاجة شديدة لزيادة عدد المحاكم، فهناك مبدأ في الدستور ينص على أن الدولة دولة قانون وتخضع للشرعية الدستورية وذلك من خلال التطبيق القضائى، وبالتالى لا بد من مواجهة العجز العددى للمحاكم. باعتقادك.. ما الحل لسرعة الحكم في القضايا الراسبة ؟ الحل في تعديل قانون الإجراءات الجنائية، لينص على ألا يمتد الفصل في القضية لأكثر من سنتين، مما يلزم القضاة بالانتهاء من القضايا الراسبة، وهى قضايا بها مستندات كثيرة ومتضخمة تتنقل كل سنة بين الدوائر المختلفة مما يتسبب في تضخمها. هل قضايا مجلس الدولة تستغرق هي الأخرى وقتا طويلا للحكم عليها؟ أغلب القضايا في مجلس الدولة لا تستغرق وقتا طويلا للحكم فيه؛ نظرا لأنها قضايا إدارية تعتمد على مستندات موجودة بالفعل، وبالتالى في حالة تأخر وصول هذه المستندات لمجلس الدولة يطبق صلاحياته، ومنها توقيع جزاءات مثل الغرامة على الموظف الذي يتأخر في تسليم المستندات الموجودة لديه، بعكس الأمر في القضايا العادية التي لا يكون بها مستندات وبالتالى تستغرق وقتا أطول. نزاهة القضاء المصرى.. أحيانا يظهر من ينال منها ؟ نزاهة القضاء المصرى لا يمكن أن نشك بها، فهناك قاعدة بالقضاء أنه يطهر نفسه بنفسه؛ لكون العمل القضائى عملا علنيا لا توجد به جلسات سرية إلا فيما ندر، وبالتالى فإن الحكم الذي يصدر يكون علنيا، ويتضمن ذكر منطوق الحكم وأسبابه، التي يتضح منها الحقيقة، وما إذا كان حكم القاضى خاطئا أم صحيحا. وفى حالة عدم النزاهة تكون الأسباب الواردة في منطوق الحكم مختلة وناقصة وبها شبهة، وهذا يؤدى إلى محاسبة القاضى، وبالتالى يمكن القول إن نزاهة القضاء لا تقل عن نسبة 99.9 %، ولكن الشك في النزاهة يطول المعاونين مثل «المحضرين»، وهذه الأزمة حلها يكمن في النظام الإلكترونى. هل هناك حالات ثبت من خلالها عدم نزاهة بعض الأحكام ؟ بالفعل.. ففى حالة الاتهام لا بد أن تكون هناك أدلة كافية، وفى هذه الحالة يتم وقف القاضى سواء بالاستقالة الجبرية أو إنهاء خدمته، وأثناء عملى كرئيس لمجلس الدولة أنهيت خدمة 3 قضاة في مجلس الدولة، بتهم خاصة بتقاضى رشوة تم ضبطها بالصوت والصورة، ووصلت إلى النائب العام، والذي أرسلها بدوره لرئيس مجلس الدولة للتصرف فيها، وفى هذه الحالة إذا لم يتخذ قرارا تقدم للمحكمة هل هناك قضايا صدر فيها أحكام خاطئة لم يكن يستحقها المتهم؟ هناك حالة شهيرة وقعت بالفعل خلال الفترة الماضية لفنانة مغمورة اتهمت بقتل زوجها الخليجى؛ ولكونها كانت على خلاف معه للانفصال، كل الأدلة أمام النيابة أدت إلى اتهامها، وحكمت المحكمة عليها بالسجن خمس سنوات لأن الأدلة ضعيفة، ثم اتضح بعد قضائها ثلاث سنوات من المدة أن من قتل زوجها كانت عصابة دخلت المنزل وسرقته بعد خروج زوجته من المنزل، وتم اكتشاف الحقيقة بعد قيام القتلة ببيع المسروقات، ومن بينها ساعة ثمنها 20 ألف دولار، واعترفوا بجريمتهم عند إلقاء رجال المباحث القبض عليهم، وخرجت الفنانة المغمورة من السجن، ورفعت دعوى قضائية على المحكمة حصلت بموجبها على تعويض مليون جنيه. بين الحين والآخر يتحدث البعض عن تدخلات الأنظمة الحاكمة لتوجيه الأحكام في بعض القضايا ؟ التدخل المباشر في أعمال القضاء غير ممكن، بل يتم التدخل من خلال وضع تشريعات قانونية تؤثر على القضايا، فالجهاز التنفيذى «خبيث» ولا يتدخل بشكل فج، وانما بشكل غير مباشر دائما. ما عدد التشريعات التي تحكم القضاء المصرى؟ يوجد في القضاء المصرى 36 ألف تشريع تتنوع بين قانون وقرار بقانون ولائحة بقرار من رئيس الجمهورية، وعلى القاضى أن يلم بهذه القوانين، وهذا يؤثر بالتبعية على عدد القضايا، فالتفسير الخاص بالقضية يختلف، وبالتالى يؤثر على قضية. وهل كل هذه التشريعات مهمة ؟ مصر في حاجة لثورة تشريعية جديدة، حيث يوجد عدد من التشريعات ليس لها مبرر أو موضوع تطبق عليه، فلك أن تتخيل أن بعضها يمكن إدراجه ضمن التشريع الطريف، فهناك قرار ينظم شروط فتح محل لبيع «الترمس» مكون من 25 مادة تقريبا، منها اشتراط أن يحتوى المحل على حوض وطفايات حريق، ويحدد شكل الأرض، مع العلم أنه لا يوجد في مصر كلها من أسوان للإسكندرية محل لبيع الترمس، وهناك تشريعات لا يمكن أن تطبق من الناحية الفعلية، مثل قانون المرور، الذي يحتوى على العديد من المخالفات، ومع الازدحام الهائل يتم تمرير مخالفات عديدة ليس لها أول من آخر. ولذلك لا بد أن تلغى تلك القوانين التي ليس لها تطبيق والمعقدة جدا، خاصة أنها تعيق العمل الإنتاجى بشكل كبير، وتطيل من الإجراءات، مما يضطر معه المواطنين إلى إجراءات غير قانونية لتمرير أوراقهم، مثل القوانين المنظمة للتجارة والصناعة. برأيك.. هل هناك رغبة سياسية في إصلاح القضاء؟ من المؤكد والظاهر بقوة وجود رغبة في إصلاح القضاء، وحتى يكون للتغيير نتيجة لا بد أن يكون هناك تعديل في التشريعات القانونية المعوقة لعملية التنمية، حيث يركز حاليا الرئيس عبد الفتاح السيسي على مجالات التنمية المختلفة من زراعة وعقارات، فضلا عن قناة السويس الجديدة. هل تغير القضاء المصرى عما قبل الثورة ؟ بالفعل تغير للأفضل بعد الثورة، لكن ما زالت هناك معوقات تواجهه، منها تباطؤ الفصل في القضايا، وخصوصا المتعلقة بالإرهاب، لذلك لا بد من تطوير القضاء المصرى من خلال ثورة تشريعية وثورة تنظيمية للعملية القضائية. كيف استقبلت تصريحات وزير العدل السابق المستشار محفوظ صابر بشأن الاعتراض على دخول أبناء عمال النظافة للسلك القضائي؟ هذا « كلام فارغ»، فلا يمكن إهدار حق المواطنين لأسباب تافهة، وقبل الحديث عن أي شيء لا بد من الإشارة إلى أن عبد الرازق السنهورى كان ساعى بريد أكمل الدراسة، وقام بتحضير ثلاث دراسات عليا، حصل من خلالها على الدكتوراه، كما أنه أصبح وزيرا ورئيسا لمجلس الدولة، وأنا أيضا توليت رئاسة المجلس ولم يكن والدى «بيه ولا باشا»، حتى الرئيس جمال عبد الناصر كان والده ساعى بريد، والرئيس أنور السادات كان والده «تمرجيا»، ووالد الرئيس المخلوع حسنى مبارك كان «مُحضر محكمة»، أيضا الرئيس الحالى عبد الفتاح السيسي كان والده «تاجر» في منطقة الجمالية، ومن قبل هؤلاء كان والد محمد على باشا «دخاخنى»، وبالتالى لا يمكن تحطيم الكفاءات وربطها بعوامل ليس لها أهمية، وهذا ما يمكن أن يدمر مصر.