"داريا" تلك المدينة العريقة في ريف دمشق، تحكي قصتها ومعاناة أهلها في ظل الحرب والحصار، اللذين أعادها إلى عقود خلت من المدنية والحضارة وأبقتها شواهد للتاريخ فقط، DW عربية دخلت المدينة المحاصرة وأعدت هذا التحقيق. خطوات قليلة، تفصل بيننا وبين القوات الحكومية السورية على خط الجبهة الطويل، غرب مدينة داريّا المحاصرة منذ سنتين بسبب العمليات العسكرية الدائرة بين قوات النظام السوري وفصائل معارضة له، لسنا بصدد كتابة تقرير عن الجبهة، لكننا نزور "نصف أسرة" تقيم في "نصف منزل" بالقرب من خطوط التماس، معالم الجدران المتهالكة والبيوت المحترقة في الجوار تدل على أن معركة كبيرة قد جرت لتوها، دون أن تعني شيئًا للأسرة التي تبدو أنها أرغمت نفسها على التكيف مع هذا الواقع المؤلم. أبو ماهر الذي يصر على أن أسرته "نصف أسرة" ويقطن "نصف منزل"، هو أب لتسعة أبناء ومتزوج من امرأتين، هو فضل البقاء داخل المدينة بعد ملاحقة اثنين من أولاده بتهمة الانضمام إلى صفوف المعارضة المسلحة وبعد مقتل صهره وابنته ببرميل متفجر حسب روايته لDW عربية، يعمل أبو ماهر في زراعة أرضٍ طالما كانت مسرحا للعمليات العسكرية الدائرة بين قوات النظام وفصائل المعارضة المسلحة، ظروف فرضت على السكان الاعتماد في معيشتهم على الخضار الموسمية فقط. يستقبلنا الرجل الخمسيني بحفاوة، وكأن بؤس أيام الحرب الطويلة لم تنل منه، يصّر على تقديم الشاي المحضر على موقد من الحطب، يقول ل DW عربية: "ليس عندنا غاز، منذ بدء الحصار على مدينتنا بدأنا نفقد كل مئونتنا"، ويضيف "ليس لدينا ما نخسره على كل حال"، يشير أبو ماهر بيده إلى منزل مجاور، هدمه القصف تمامًا: "هذا منزل ابنتي التي قُتلت مع زوجها بأحد البراميل قبل أربعة أشهر، لقد تحول نصف المدينة إلى ركام بسبب البراميل المتفجرة". باستثناءاتٍ قليلة، فإن مشهد الخراب هو الصورة الطاغية في المدينة، كثيرًا ما ترى بيوتًا سويت بالأرض، بعض المنازل تعرضت للسرقة بفعل الإهمال والتسيب وغياب الضوابط، عبارات كثيرة لطخت ما تبقى من جدران، تندد بالنظام وبفصائل المعارضة على السواء. واقع مرير تشكل جبهة المدينة مسرحا مفتوحًا على عدة جهات، مما يجعل أغلب أجزائها في مرمى النيران من هذا الطرف وذاك، الأمر الذي يزيد من معاناة المدنيين داخلها في توفير مناطق آمنة لأطفالهم تحميهم من العمليات العسكرية، وكما هو الحال بالنسبة للعديد من الأسر المقيمة في داريّا، فإن دار أبو ماهر تفتقر لإجراءات الوقاية من القذائف المتطايرة في سماء المدينة من كل حدب وصوب، ولكن مع اعتياد أجواء الحرب "أصبح السكان قلما يكترثون، مستسلمين للقدر"، على حد تعبيره. على الطريق المؤدية إلى وسط المدينة نشاهد العشرات من بساتين الكرمة التي بقيت على حالها منذ أن غادرها أصحابها، باستثناء ما تعرض للحرق بسبب المعارك الدائرة بين الطرفين، لقد بدأت بعض الفعاليات داخل المدينة باستصلاح جزء من المساحات الزراعية والاعتماد على محاصيلها. ويتعاون عدد من المدنيين على زراعة أكبر مساحة ممكنة من الحقول، لسد حاجة أربعة آلاف مدني مازالوا محاصرين داخلها، وبرغم خطورة العمل في أراضٍ مكشوفة، فإن مساحات شاسعة أصبحت تعطي محصولها، الأمر الذي وفر مصدر غذاء لأسر كبيرة يصعب عليها ترك بلدتها للحصول على احتياجاتها من مدن ومناطق أخرى. عودة إلى عصور المقايضة ليس الحصول على الغذاء وحدة مشكلة سكان داريا، بل ربما إن الحصول على الماء النظيف يشكل أكبر مشكلة تواجه الكثيرين من سكانها، فمع انقطاع ضخ المياه إلى البيوت يلجأ السكان، ومنهم أبو ماهر، لاستخراج المياه من الآبار الجوفية لأغراض الشرب والسقاية، باستخدام مضخات الديزل، بيد أنهم يضطرون للاستعانة بزيت السيارات المحترق كوقود بديل عن الديزل الذي أصبح نادرًا، يقول أبو ماهر: "كثيرًا ما تتعطل المضخات بسبب رداءة الوقود، في هذه الظروف سأكون الميكانيكي وأحاول إصلاحها، نحن غالبًا ما نقوم بأعمال ليست من اختصاصاتنا". يسارع ورد ( 14 عاما) الابن الأصغر لأبي ماهر، إلى ملء أوعية الشرب البلاستيكية من ماء المضخة، يقول الأب: "أكياس القنب ستحفظ الماء باردًا، لم نشغل الثلاجة منذ سنتين على الأقل"، ويضيف أبو ماهر: "استعدنا العادات القديمة، للتحايل على ظروف العيش، لا أظن أن ورد، فوّت على نفسه فرصة التعلم، داخل مدرسة مرتجلة أحدثها ناشطون من سكان البلدة العام الفائت، لتكون بذلك سنته الثالثة خارج مقاعد الدراسة، فهو بالكاد يحسن القراءة". ورد أخذ يهجّي الأحرف الأولى على آلة تسجيلDW عربية، بناءً على إلحاح والده. كثيرًا ما تكون الأعمال التي ينجزها الكبار من نصيب هذا الفتى اليافع، من جمع الحطب وقطف المحصول وأعمال الرعي، وصولًا إلى مهمته المحببة: تنظيف رشاش والده، مكتفيًا والده بتسديد بعض النصح في أصول تنظيف السلاح. الكوسا، الباذنجان، الطماطم وأصناف أخرى من الحشائش والخضراوات الصيفية ترتب في الصناديق على بوابة الحقل، قبل أن تتولى شاحنة ثلاثية العجلات توزيعها وفق لائحة يشرف عليها المجلس المحلي للمدينة حسب الأولوية. كل ذلك يقدم بلا ثمن بالطبع. ففي هذه المدينة المحاصرة تغيب العملة ويفقد النقد قيمته، وتحل المقايضة جزءا من احتياجات السكان، فكثيرًا ما يقايض أبو ماهر الخضراوات بالتبغ، أو بالقليل من السكر "بعض السكر فقط، فنحن لسنا أسرة كبيرة، نصف أسرة تقطن نصف منزل"، يختم الرجل الخمسيني. هذا المحتوى من موقع دوتش فيل اضغط هنا لعرض الموضوع بالكامل