علاقتى بالمشير طنطاوى تمتد إلى عام 1970 حيث كان طنطاوى وقتها ضابطا في القوات المسلحة برتبة "رائد" وكنت أنا من الشباب الذين يبكون على النكسة التي بلينا بها في عام 1967.. حيث التقيته مصادفة بمدينة السويس وأنا أسير على أطراف شوارعها ليلا بينما يمر هو بسيارة تابعة للقوات المسلحة.. أشرت أنا للسيارة التي مرت من أمامى دون أن يلتفت إليَّ سائقها الذي لاحظت أنه يرتدى زى المجندين.. إلا أننى فوجئت بالسيارة تعود إلى الخلف ويشير لى من داخلها هذا الفتى الأسمر، الذي يضع على كتفه النسر العسكري ويقول لى تفضل بالركوب، مع أن هذا ممنوع لكن المسافة إلى المدينة بعيدة. فقلت له: لا تفعل ما هو ممنوع ياسيادة الرائد وافعل ما هو مطلوب! فقال: وما هو المطلوب؟! قلت: إعادة هيبة الوطن والثأر من إسرائيل ليتخلص الشعب من نكسته التي بليتمونا بها! قال: نحن لم نبتليكم بشيء.. فنحن جيش وطني لا يضاهيه جيش في الشرق الأوسط لكن مثلا شعبيا يقول "الكثرة تغلب الشجاعة".. فلقد فوجئنا بخمس دول كبرى تقذفنا بالطائرات والصواريخ ورغم ذلك لم تستطع هذه القوى دخول مصر اللهم إلا أنهم احتلوا جزءا من سيناء تركناه لهم بكامل إرادتنا حتى نحافظ على الوطن من الداخل! قلت: نحن شباب المقاومة الشعبية الذين حافظوا على الوطن من الداخل! قال: ومن الذي دربكم على المقاومة في فترة وجيزة وسلحكم بالأسلحة والذخائر؟! فقلت له: الجيش ! قال: إذ لا فرق بيننا وبينكم فنحن أبناؤكم وأخوتكم وأنتم كذلك وغدا قد تجد نفسك مجندا بالقوات المسلحة وتجد من يلقاك ليقول لك ما تقوله لى الآن رغم أنك توقفت أمامه لتقدم له يد العون! شعرت ساعتها بأن الفتى ليس مجرد ضابط في الجيش وإنما كان مفوها ومستوعبا لما يدور حوله إلا أننى قلت له متأسفا: إننى وحيد والداى لذا لن ألتحق بالقوات المسلحة وهذا أمر يحزننى تماما ! قال: من الممكن أن تجند نفسك لخدمة وطنك في مجالات أخرى وليس بالضرورة من خلال القوات المسلحة! وفى هذه الأثناء كنا قد دخلنا المدينة وبدأ الشباب ينادوننى ويشيرون عليّ ويرحبون بقدومى فلاحظ طنطاوى شعبيتى هذه فسألنى: هل أنت من أبناء السويس ؟! فقلت له: لا بل أنا من أبناء الصعيد لكن أمثالى يكون لهم جماهيرية في كل مكان! قال: ومن هم أمثالك وماذا تعمل؟! قلت: أنا خليفة كبير الفشارين عمنا "أبو لمعة" ولى أقران في جميع المحافظات.. ولأننى فشار متميز ومعى شهادة التميز الموثقة بختم الكبير أبو لمعة أقوم بزيارة فشارى المحافظات كى أقف على أخبارهم وأقف على ما يدور من أحداث في جميع ربوع مصر فأقدمها بين يدى عمى أبو لمعة! قال: لكن سنك صغيرة على أن تخلف أبو لمعة الذي حقق نجومية في الفشر بعد عناء! قلت له: الفشر موهبة ولا علاقة له بالسن، كما أننى أعمل على تشكيل ائتلاف شباب الفشارين على مستوى مصر كى أجمع الأجيال الجديدة من الفشارين الموهوبين وأنافس بهم كبيرنا أبو لمعة وأمثاله من كبار السن الذين لم يحققوا شهرة سوى داخل مصر في حين أننى أرنو للعالمية! متبسما قال: أنا لم أعرف اسمك حتى الآن! قلت: أنا اسمى "أبو طقة" فلتتذكر هذا الاسم أيها القائد الذي لم أعرف اسمه بعد! قال: أنا اسمى "محمد حسين طنطاوى"، قائد وحدة مقاتلة بسلاح المشاة أقف على خط النار لاستنزاف إسرائيل حتى يحين الموعد الذي تتمناه أنت وكل مصرى.. أعدك يا أبو طقة أنك سترى علم مصر يرفرف على رمال سيناء في القريب العاجل! قلت: ومتى سيحدث ذلك الأمل أيها المحارب الجميل ؟! قال: الله أعلم لكنه قريب وكلنا ننتظره بفارغ الصبر! قلت: إنها فرصة سعيدة تلك التي التقيتك فيها وأنا مستعد لأي خدمة أقدمها لك.. فمحمد أنور السادات صديق شخصى والفريق "الجمسى" حبيبى الروح بالروح ! متبسما قال: شكرا يا أبوطقة يا فشار. رحل طنطاوى إلى حيث يتجه وتوقفت أنا بين جموع المرحبين ومر على هذه الواقعة عام بأكمله لم أنس فيه طنطاوى بل كنت أتذكره كلما سمعت في الراديو أو قرأت في الصحف خبرا عن عملية عسكرية ناجحة داخل سيناء والأراضي الإسرائيلية فيما يسمى حرب الاستنزاف. وفى يوم من الأيام وجدت من يطرق على باب منزلى ويطلب من والدتى مقابلتى فخرجت لأجد شابين لا ينقص أحدهما عن الآخر ضخامة ولا فتوة يطلبان منى أن أرافقهما إلى حيث سيذهبان. ولما اعترضت وهددتهما بعلاقاتى التي تصل إلى الرئيس السادات في ذلك الوقت أخرجا لى بطاقاتهما الشخصية التي تثبت أنهما يتبعان الأمن العام. أمهلانى الوقت الذي طلبته لارتداء ملابسى ثم ركبت معهم سيارة انطلقت تجوب الشوارع حتى فوجئت بمن يغمض عينى معتذرا عما بدر منه مؤكدا أنها إجراءات أمنية ليس أكثر. لم أقاوم لعلمى بهذه الإجراءات حتى وصلنا إلى مكان ما فترجلنا من سيارتنا وأخذ "الفتيان" يمران من طرقة إلى أخرى أو هكذا بدا لى حتى طرق أحدهما باب حجرة فأمره من بداخلها بالدخول ثم سمعته يقول له "فك الرباط" وأمره بالانصراف لأقف وحيدا بين يدى ذاك الذي وقف عن مكتبه ورحب بى قائلا: أهلا أهلا يا أبو طقة يا بطل! تعجبت من وصفه لى بالبطل لكنى لم أبد ذلك إلا أننى سألته: أين أنا ومن أنت وكيف تسمح لنفسك أن تقابلنى بهذه الطريقة.. ألم تعلم من أنا وماذا أستطيع أن أفعل بك ؟! قال: أعلم.. ولكن هذا في حالة خروجك من هنا.. حاول أن تهدأ يا أبو طقة! ولأن الزمن كان غير الزمن والخبرة كانت لا تضاهى خبرتى الحالية انصعت له وجلست في هدوء فطلب لى فنجانا من القهوة المظبوط ومعه فنجانان آخران "على الريحة". فقلت: نحن اثنان فلماذا تطلب ثلاثة فناجين من القهوة ؟! قال: سنكون ثلاثة بعد أن اضغط على هذا "الزر"! بمجرد أن ضغط على "زر" مكتبه وجدت من يطرق الباب ويدخل مباشرة ليقول لى: ازيك يا بطل المقاومة الشعبية.. هل تتذكرنى؟! فوقفت مشدوها أحملق فيه حتى أدركت أنه الرائد محمد حسين طنطاوى الذي وعدنى بالعبور إلى سيناء في وقت قريب فسلمت عليه وتعانقنا ولاحظت أنه أصبح برتبة مقدم فتحسست النجمة التي بجوار النسر وباركت له الترقية وجلسنا فقلت له: أريد أن أفهم ما يدور حولى حتى أستريح ! قال: اطمئن يا بطل.. فكل الحكاية أننى وفقت "راسين في الحلال".. فسيادة المقدم زميلى يبحث عن بطل قومى يحقق من خلاله إنجازا تاريخيا يحسب لمصر وللمخابرات الحربية وأنت تستاء من عدم التحاقك بالقوات المسلحة وكنت تتمنى أن تتعامل مع إسرائيل مباشرة وها هي فرصتك قد وأتتك وأنا على علم بوطنيتك وراهنت عليها فلا تخذلنى ولا تخزل عشم مصر فيك! وهنا سلم عليّ طنطاوى واستأذن للانصراف لأجلس مرة أخرى أمام صاحبنا الذي وضع يده على ملف مدون عليه "العميل رقم 16"، وسوف أقص عليكم في الحلقة القادمة كيف أن طنطاوى هو الذي أنقذ مصر من الفوضى دون انتظار مقابل أو حتى كلمة شكر!