.. برغم أننى دخلت ميدان التحرير مترجلا فى شوارع «وسط البلد»، فإننى لم أشعر ألبتة بالجلبة وضجيج الحياة التى هى سَمت مميز لهذه المنطقة دائما.. كان الصمت كئيبا ثقيلا يحاصرنى أنا وصديق العمر «عمرو». والحقيقة لست متأكدا تماما من أن الشارع هو الذى كان صامتا ساكتا، فربما أنا وصديقى بثثناه فى الأجواء قبل أن يرتد إلينا، كل ما أعرفه أننى لم أكن أسمع سوى وجيب القلب الموجوع فحسب.. حتى هؤلاء الطيبين الذين استوقفونى مرات عدة لتحيتى كنت أرد تحيتهم بابتسامة كسيرة، ثم أمضى ممسكا بيد «عمرو». صرنا على حافة الميدان العتيد، فهالنا ظلام القبور الدامس الذى أغرقوه فيه (فى عز أيام الثورة لم يجرؤ أحد أن يطفئ نوره).. بدت لى أرواح الشهداء هى مصدر الضوء الوحيد هنا، وشعرت والله أننى ورفيق العمر نسير ونتحسس الطريق بين الكتل البشرية الغاضبة المكلومة المنتشرة فى أرجاء الميدان على هدى من قبس نور روح الشيخ عماد والفتى أحمد وعود الفل علاء، وباقى أعضاء آخر قافلة الأبرار الذين صعدوا إلى المجد والنعيم وتركوننا خلفهم نكابد الحسرة ونلعق جراح الخيانة والخراب وتتلوث عيوننا بمناظر المجرمين القتلة وأعداء الحياة. زوجتى هى التى نصحتنى أنا وعمرو بأن نداوى وجع قلبينا بالذهاب فورا إلى الميدان.. «الشباب هناك يكافحون من أجل إنقاذ ما تبقى من ذخائر ونفائس المجمع العلمى المصرى، روحوا شوفوهم وشجعوهم وإذا غلبكم البكاء من جديد، ابكوا على صدورهم الحنونة».. هكذا قالت زوجتى. وصلت أنا وصديقى إلى شارع الشيخ ريحان من مدخله بشارع قصر العينى، حيث ينتصب مبنى «المَجمع» المنتهك بالنار.. كان المشهد مهولا مروعا، الدخان ورائحة احتراق لحم الوطن تملأ وتسد الأفق تماما وتحاصر البصر أينما امتد.. أما قطعان الرعاع والحثالة فقد كانت لا تزال متمركزة فوق تلال الخراب، وعلى أسطح المبانى المحترقة ولا تكاد تهدأ أو تتوقف لحظة عن اقتراف الإجرام، فتارة تقذف بمزيد من النار (قنابل مولوتوف) وتارة أخرى تطلق حجارة أو رصاصا حيا على مئات الفتيان والفتيات والصبية المحتشدين أسفل المبنى ويجاهدون أنفسهم جهاد الأبطال لئلا يستجيبوا للاستفزاز ويشاركوا فى الحرب القذرة التى تشنها عليهم تلك القطعان السافلة، ومن ثم ينشغلون بها عن حرب أخرى نبيلة كان رفاقهم البواسل يخوضونها لانتشال عقل الوطن وتراثه من براثن اللهب. لقد نجح الشباب بجهد جهيد فى صنع ممر بين النار والركام وتحت سماء تمطر مولوتوفا وحجارة ورصاصا، هذا الممر المسيج بأجساد عشرات الشباب كان يبدأ من عند السور الشائك الذى تتحصن خلفه قوة من الجيش (تتفرج على ما يجرى) ويمتد طويلا حتى البوابة المفضية إلى حوش مبنى المَجمع، حيث ترقد فى عمقه كومة من نفائس الكتب والأوراق أنقذها رجل باسل (كل ما عرفته عنه أنه موظف بسيط فى وزارة الزراعة)، التقطها بمساعدة صبية غلابة ورصصها فى ركن قصى بالحوش.. بعد لحظات من وصولى إلى المكان وجدت نفسى مشاركا فى الجهاد الصعب لإقناع بعض الصبية والشباب (وعدد من الكهول لهم ملامح تشى بالبؤس وقسوة الحياة)، بأن لا يردون على القطعان المشعلقة فوق أسطح المبانى الخربة وأن يتفرغوا لحماية زملائهم البواسل الذين يقتحمون الخطر لإنقاذ ما تيسر لهم من عقل وذاكرة بلدنا.. هتفت كثيرا: «هذه بلدنا ليس لنا من وطن سواها، عندما يحرقها المجرمون واجبنا ننقذها»، كان يحاجّنى بعضهم غاضبا: هما اللى بدؤوا بالحرق، هما اللى خربوها وضربوا وقتلوا إخواتنا وانتهكوا وعروا بناتنا.. ترضى أختك أو أمك يحدث فيها ما فعلوه مع هذه الفتاة (أبرزوا الصورة المنشورة أول من أمس فى «التحرير»)، وهل الكتب دى أغلى من أرواح الذين قتلوهم؟!! كنت أتلعثم، أعترف وأعجز عن رد مقنع للسائلين هؤلاء، ومع ذلك بقيت صامدا أجاهد لأقنعهم بأن أجمل ما نقدمه لأرواح شهدائنا أن ننقذ الوطن ولا نجارى المجرمين فى جنونهم.. فاضطر بعضهم إلى أن يجارينى ويأخذنى على قد عقلى، وقال أحدهم زهقا: طيب خلاص يا حج، حنسيبهم يضربونا ويموتونا لغاية لما نجيب الكتب بتاعتك من جوه.. اهدى بقى وصلى ع النبى. هدأت وتلفتّ حولى أبحث عن صديقى عمرو، فاكتشفت أنه تركنى فى ساحة الجهاد بالكلام والمناهدة وذهب هو ليحارب مع المحاربين البواسل ويستخرج معهم الكتب المكومة فى الحوش.. هرولت إليه ومشيت خلفه تحت النار ووسط الركام وحملت نصيبى من النفائس.. وفى اللحظة التى كنت أعبر فيها بحملى الثقيل من البوابة سمعت صوت الشاب الذى كان يجادلنى يقول: هيه دى بقى الكتب اللى ح تموتوا عشانها؟ طيب هات عنك يا حاج، وخليك ورايا والنبى لاحسن تيجى فيك حاجة من اللى بيحدفوها ولاد (كذا)..