الحملة القائمة فى مصر الآن تتراوح بين المناظرات الكلامية، والانتهازية، والتدليس السياسى والدينى والهرطقة الفكرية التسطيحية والمسطحة. هذه الحملة تقصد بالدرجة الأولى إصابة الشعب البسيط بالتوهان والخلط واللخبطة أكثر مما هو فيه من شعوذة وإظلام وتخدير. الحملة هذه تستخدم كل الأسلحة الكلامية والمصطلحات المتناقضة والتكفير وهدم منطق الاجتهاد بمعناه العلمى لا الدينى. الكل يخشى التحدث بصراحة ووضوح وتحديد. وبالتالى أصبح مفهوم الماسونية رائجا هذه الأيام، ومن يطرحه يساويه بالعلمانية والكفر والإلحاد، بل وبالمدنية أيضا. لن يكسب من هذه الحملة أى شخص أو تيار أو حزب أو قوة سياسية. الكل سيخسر، بما فى ذلك مصر. وسيبكى المصريون دماء بدلا من الدموع مهما كانت وعود العسكر المعسولة، ومهما كانت وعود الإخوان وانتهازيتهم تؤدى إلى جنة الخلد. أعرف أن الاتهامات ستكون جاهزة سلفا. ولكن جاء وقت الحقيقة وليكن ما يكون. العسكر لن يتركوا السلطة حتى ولو سلموها إلى مدنيين. والإخوان يدفعون بمصر إلى طريق بلا رجعة. وإذا كان العسكر والإخوان قد اتفقوا ضمنيا على معارك جزئية فهذا يعكس الطبيعة الاستبدادية لكلا البنيتين الذهنيتين وطريقتى التفكير المرتبطتين بمفهوم «الضرورى والمطلق والحتمى». من الواضح أن هناك عملية بلورة لتيارين أساسيين فى المجتمع المصرى، هما العسكر والإخوان تحديدا، وليس تيار الإسلام السياسى ككل. اللعبة تجرى بسلاسة منقطعة النظير بعد أن فشل النظام العسكرى فى تصدير منهج مبارك و«طقش» الإخوان بالتيارات الليبرالية أو اليسارية. البعض يستجيب للدخول فى مهاترات مع الإخوان. ولكن الغالبية العظمى استوعبت اللعبة الخبيثة وأفسدت على كلا الطرفين مساعيه. أما من يقع فى المحظور فهو يقوم بدعم خطة بلورة تيارين رئيسيين فى مصر. فلا موضوع الحجاب أو الخمور أو العرى يهم أى أحد من بعيد أو قريب. فالمجلس الذى أجرى كشف العذرية على سيدات الثورة وأكد أن لا تنازل عن العرش مهما حدث، لا يختلف كثيرا عن الإخوان الذين يتسابقون الآن لتحليل الخمر والعرى ومغازلة المصريين دينيا. ليتعارك العسكر والإخوان. ليتطاحن الإخوان والسلفيون. ليعش كل منهما مع الآخر فى شهر عسل تتخلله بعض المنغصات هنا أو هناك. ليشكلوا مجالس استشارية ورئاسية، وليقابلوا ما يخترعونه من شباب ائتلافات الثورة الكثر. ليشكلوا حكومة وبرلمانا. ليفعلوا ما شاؤوا. وليبذلوا الوعود والتطمينات التى تأتى بمفعول السحر مع بسطاء المصريين (الذين سيبكون دماء لا دموعا). ولكن لا مفر من دستور علمانى يفصل الدين عن الدولة مرة وإلى الأبد. لا داعى للهرطقة السياسية والدينية وخداع البسطاء باسم الجنة والدين والله والرسول. ولا داعى للعب بالكلام والمناظرات الفارغة والتفلسف الكاذب على صفحات الصحف وأمام كاميرات التليفزيون. إذا كان الإخوان، وحزبهم، مستعدين فعلا للعمل فى دولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة الكاملة وإطلاق الحريات التى لا تتجزأ، فما الضير إذن فى وضع دستور علمانى يفصل الدين، أى دين، عن الدولة؟! إذا كان النظام العسكرى صادق فى عملية نقل السلطة إلى حكومة مدنية، فلماذا إذن يمارس نفس سياسة مبارك ومنهجه فى اختراع الأشكال الوهمية ومنح الصلاحيات الوهمية ورفض دستور علمانى يفصل تماما وإلى الأبد بين الدين والدولة؟! تساؤلات تبدو ساذجة، ولكنها تحاول استنباط ولو حتى أنصاف إجابات على ما يجرى من تدليس باسم الدين وباسم الأمن القومى وباسم الشعب المصرى الذى وقع فى مستنقع الجهل والتجهيل والتكفير والتخلف والخيانة والتخوين بسببهم هم ولا أحد غيرهم. فهم أنفسهم الذين كانوا فى العهد البائد-الحالى: المجلس العسكرى ورئيس الحكومة والكثير من أعضائها. والإخوان أيضا هم أنفسهم الذين كانوا فى عهد مبارك. فهل تغيروا بين ليلة وضحاها؟! الكل الآن: يساريون وليبراليون وإخوان وعسكر، يطنطنون بمصطلحات ويخترعون أخرى، ويواصلون تدليسهم وألاعيبهم السياسية الساذجة والفجة فى آن واحد. و«الشعب» الذى يتحدث الجميع باسمه فى واد آخر يبحث عن منقذ على طريقة العسكر والإخوان ومبارك بنتيجة الجهل والتجهيل. والكل يصفق: لقد جاء الجهل والتجهيل بالنتيجة المرجوة، وكل شىء سيتحقق بإرادة «الشعب». إذن، فلتكن إرادة الشعب الذى دمرتم ذاكرته وأبدتم وعيه وقضيتم على بصره وبصيرته. ولتكن كل أوراق اعتمادكم للبيت الأبيض والغرب رغم طنطناتكم بالسيادة واستقلال القرار. كل ما فى الأمر أن نفس هذا «الشعب» سيبكى دما بدلا من الدموع عندما يدرك أن لقمة خبزه اختطفت منه فى لحظة خداع جَمَّلها العسكر بالمدنية وأضاف إليها الإخوان وعودا بالجنة والحرية التى يجب أن تمر عبر برلمانهم وحكومتهم ومؤسساتهم التى ستفضل قطعا المحجبة أو الملثمة على غيرهما فى أثناء التوظيف. وستفضل الملتحى أو المستقيم والملتزم المسلم على غيره من المصريين. سيدرك «الشعب» الذى يتاجرون به أن الدستور العلمانى وفصل الدين عن الدولة وإطلاق الحريات الكاملة كان هو مطلبه الأول ولكن الغربان التى تجمعت فجأة فى سماء بلاده حجبت عنه الرؤية.