مضت سنوات وأنا أحضر ندوة قصر النيل بانتظام دون أن أتأكد ما إذا كان نجيب محفوظ يعرفنى بشكل شخصى، أو حتى يتذكر اسمى أم لا! صحيح هو يسلم علىّ، كما يسلم على الجميع يدا بيد، ويرد على أسئلتى التى أوجهها إليه من حين إلى آخر، ولكن عبر هذه السنوات لم نتحدث معا على انفراد مثلما حدث فى اللقاء الأول! وكان الأستاذ فى هذه الفترة يأتى إلى الندوة سيرا ويعود إلى بيته سيرا أيضا. لكن حدث فى نهاية إحدى الندوات، وكنا فى بدايات الثمانينيات، وكانت عندى سيارة صغيرة، إذ رأيت الأستاذ يوقِف تاكسيا ليعود به إلى بيته، فانتظرته فى الأسبوع التالى، حتى سلم على الجميع كعادته، وخرجت إليه مسرعا، وسألته إذا كان يسمح لى بأن أوصله إلى بيته، فإن طريقنا واحد، فوافق بأريحيته المعهودة. وحين جلس إلى جوارى فى السيارة، كانت سعادتى لا توصف، فها أنا ذا وحدى أخيرا مع نجيب محفوظ، أتحدث معه، وأتابع أسئلتى الواحد تلو الآخر! كنت أسير بالسيارة بمنتهى البطء، فبيته قريب من الندوة، وأنا أتمنى أن يطول المشوار، ويطول إلى ما لا نهاية! وبعدما ركب معى مرة وأخرى، أصبحت عادة لديه، إلى درجة أنه لا يسمح لأحد آخر أن يوصله إلى بيته، فقد اعتاد علىّ، وعلى سيارتى الصغيرة! وقد توثقت علاقتى بالأستاذ خلال زمن العودة معا إلى البيت، وأخذت الأحاديث تشرِّق بنا وتغرِّب، وأخذت أسأله عن رأيه فى ما يجرى فى البلد، وفى ما يُقَال فى ندوته، ومقارنتها بندوة أوبرا، وندوة ريش. وللأستاذ طريقة مدهشة فى الإجابة عن الأسئلة، فقد كان يشعر بأننى ممتلئ بأسئلة كثيرة، لذلك كان يقدم لى إجابات موجزة وحاسمة ودقيقة، فكأنما نلعب معا لعبة (تنس الطاولة) سؤال من هنا، وإجابة من هناك! حتى إننى سألته مرة عن أسئلته هو! فهل وهو فى السبعينيات -حينئذ- ما زالت تشغله بعض الأسئلة؟ فكانت إجابته: نعم، فثمة أسئلة تظهر من حين إلى آخر، وتدفعنا إلى البحث عن إجاباتها، لعلها ليست نفس الأسئلة القديمة، إذ إن لكل مرحلة عمرية تساؤلاتها. ولأن رغبتى فى المعرفة -كانت وما زالت- أكبر بكثير من قدراتى على التعلم والبحث والتحصيل، سألته: هل مع التقدم فى العمر ستقل هذه الرغبة الجنونية؟ وكعادة محفوظ فى النظر إلى الأمور بموضوعية، لم يقدم لى إجابة عامة، ولكنه قال إن رغبته فى المعرفة لم تنقص مع التقدم فى العمر! وخلال صحبتى الطويلة مع الأستاذ، كنت دائما ما أتأمل بدهشة وإعجاب شوقه العارم إلى المعرفة، فهو مثلا لم يتمتع بمميزات الكمبيوتر، ولا «الإنترنت»، وكنت أشرح له كيفية التعامل مع هذا الجهاز المدهش، كما أحادثه عن عالم النت العجيب. فقال لى إنه لو كان يستطيع، أى لو كان بصره يسمح له، لخاض هذا العالم الجديد بنفسه.