اعذرونى هذه المرة أن أكسر القاعدة الصارمة التى عاهدت نفسى على الالتزام بها، أن يبقى العمود رياضيا خالصا وأن لا ينحرف أو وينجرف للحديث فى شأن آخر احتراما للقارئ الذى جاء لهذا المكان وكلف نفسه مشكورا واقتطع جزءا من وقته الثمين كى يقرأ وجهة نظرى فى الشأن الرياضى، ومن الغباء وقلة الذوق والجليطة الصحفية أن أفرض عليه ما لم يأتِ إلى هذه الصفحات من أجله، ولكن الظرف السياسى العظيم الذى تعيشه البلاد بعد ثورة عظيمة أفرز انتخابات حرة اختار الناس فيها مرشحيهم بما يعبر عن إرادتهم وقناعتهم فى هذه اللحظة، وبما يفصح عن إرثهم المعرفى والثقافى والدينى والسياسى بعد سنوات طويلة من تغييب إرادتهم وعزلهم عن ممارسة العمل السياسى أو المشاركة فى صنع القرار فى وطنهم، هى أمور دفعتنى أن أكسر القاعدة وأتحدث فى الشأن السياسى ونتائج المرحلة الأولى من الانتخابات التى اكتسحها تيار الإسلام السياسى الممثل فى الإخوان المسلمين وبعده التيار الدينى المتشدد من السلفيين الذين قفزوا على المشهد السياسى دون سابق إنذار. وما يستوقفنى الآن هو حالة الهلع التى أصابت أغلب القوى السياسية والليبرالية والثورية التى صنعت الثورة وقدمت شهداءها ومصابيها وشاركت فى إزاحة كابوس ظل جاثما على صدر الوطن ثلاثين عاما ذقنا فيها العذاب ألوانا، لتجد نفسها خارج المشهد وتُقصِيها القوى الشعبية الصامتة من البرلمان القادم وتكيدها باختيار السلفيين الذين عاشوا سنوات عمرهم فى حضن الحاكم ولم يشاركوا فى الثورة بل عابوا على رجالها فى أيامها الأولى خروجهم على طاعة الحاكم ناهيك بعدم درايتهم بشؤون السياسة وانعزالهم وتقوقعهم طوال تاريخهم فى البحث فى القضايا والفتاوى الدينية، ويزيد من هلع تلك القوى أن الفوز الكبير للإسلاميين يعنى أننا نتجه نحو دولة دينية بكل ما تحمله من قمع للحريات (بالمناسبة ليس مقصودا بالحريات هنا شرب الخمر ولعب الميسر والزنى فهذه مفاسد وليس حريات) وقتل لوجهات النظر المخالفة ووأد للأفكار الخلاّقة وتحريم للفنون والأدب وإقامة دولة الحريم والحجاب والنقاب وتكفير كل من يختلف معك فى الرأى حتى لو كان فى شأن سياسى كما وقع فى أثناء الانتخابات عندما أشاع بعض أنصار التيار السلفى عن الليبراليين أنهم ملحدون ونصارى، أو تصنيف القوائم بقائمة الإسلام وقائمة الكنيسة... كلها مخاوف جعلت قطاعا كبيرا من الناس ينهار نفسيا وعصبيا أمام هذه المخاوف، وكانت ألطف نكتة سمعتها وتعبر عن المشهد فى مصر الآن: «البلد انقسمت نصفين، جماعة التكفير والهجرة، وجماعة التفكير فى الهجرة». صحيح هناك مَن سقط سريعا مع صعود أول سلمة فى الديمقراطية ولمجرد أن إرادة القطيع الأكبر من الناس جاءت على غير ما يريد فبدأ يفكر فى الهجرة كأنها الانتخابات الأولى والأخيرة، وبالفعل قد تكون كذلك إذا استسلمت القوى الثورية والسياسية لهذه الهواجس ولم تستكمل التجربة وتعطِ فرصة لمن نجح فقد يصلح وتعيد هى ترتيب نفسها وتبحث عن سبب فشلها. وعن نفسى أرى أن الفوز الكبير للإسلام السياسى والمتشدد طبيعى جدا لأسباب عديدة، فالمجتمع المصرى لم يسمع طوال عصر مبارك إلا عن فصيلين: الأول فى السلطة ويمثله الحزب الوطنى وكان ينجح رغما عن أنفه، والثانى المعارضة ويمثلها الإخوان المسلمون الذين ظلوا فى حالة كر وفر مع النظام، بينما باقى القوى السياسية اليمينية واليسارية تم استئناسه وجلس على حجر السلطة ولم يتفاعل مع الشعب إما خوفا من أمن الدولة وإما طمعا فى مقعد بالتعيين أو فرصة عمل فى وزارة الثقافة، وعندما أزاحت الثورة النظام الحاكم وأسقطت كل رموزه كان طبيعيا جدا أن يذهب الناس إلى قوى المعارضة الحقيقية والمنظمة التى عملت فى الشارع لسنوات طويلة. ونستكمل حديثنا غدا إن شاء الله.