هذه معركة بالأسلحة المُحرَّمة.. خسرتها جميلة إسماعيل فى دائرة التحرير، وجورج إسحاق فى بورسعيد، وناصر أمين فى حلوان. تابعت المعارك الثلاث بدرجات مختلفة، لأنهم أصدقاء، وقبل ذلك لأنهم مؤشر على التغير فى معركة كانت من قبل محسومة للأقوياء، قوانينها معروفة بشكل مفرط، ويديرها من أسفل سماسرة أصوات (يقدر الجميع على الشراء) وبلطجية (هم أداة حسم هامة). لم يكن هناك مكان ليوتوبيا من نوع «الناس تعرف مصلحتها» و«الجماهير ستصوت للتغيير». معركة الانتخابات حتى 2010 كانت معركة «البقاء للأقوى» بين مرشحين يلعبون تحت شعار «أنا ومِن بعدى الطوفان» أو «ما تغلب به العب به» وهنا تستخدم الأسلحة المُحرَّمة قانونيا وسياسيا: الأموال والدين. تابعت المعركة الانتخابية ببعض الأمل فى تغيير قانون المعركة وانحسار دور الأسلحة المُحرَّمة لصالح عناصر أخرى ترتبط بالديمقراطية وبدخول قطاعات واسعة مسرح السياسة. لم يكن أملا كبيرا، لأن الانتخابات تتم فى ظروف متخلفة وبدائية بداية من قانون الترشح، ونهاية إلى نظام الفرز الذى ينتمى وكما رأيناه بالتفصيل إلى القرون الوسطى السياسية. كيف يكون هذا النظام الانتخابى ممر العبور إلى دولة حديثة؟ كيف يكون الفرز بهذه الطريقة البدائية ضمان ديمقراطية حديثة؟ هذا نظام انتخابى من السهل اختراقه وتوجيهه لصالح الأقوى فى استخدام الأسلحة المُحرَّمة. وهنا كانت جسارة القتال فى معركة بالجهد الفردى لشخصيات ساهمت بشكل أو بآخر فى تمدين الحياة السياسية. جورج إسحاق لم يكسر فقط حاجز الخوف من النزول إلى الشارع لكنه كسر أيضا احتكار قيادة الشارع لنجوم الإخوان المسلمين.. فهو أول مسيحى منذ أيام سعد زغلول يتقدم الصفوف ويعبّر عن شوق لمعارضة تبنى مواطنة لا يحتكرها أبناء دين أو عائلة. جورج إسحاق أزعج كل المؤسسات المغلقة.. أجهزة مبارك الأمنية اعتبرته خطرا لا بد منه.. الإخوان كانوا يخشون من براعته الهادئة فى تكسير سيطرتهم على المعارضة فى مصر.. وأقباط المهجر اعتبروه من الإخوان المسلمين. جورج رمز لمعارضة مفتوحة تتشكل فى شارع تعوّد على صمت طويل، حقق التوازن بين التيارات الحماسية فى حركة «كفاية» وحرّك كاميرات الفضائيات وراء إبداعات جديدة فى الاحتجاج. لكن وجوده فى أى مكان هو علامة على الروح التى وُلِدت مصادفة وكان هو الجسر بين الاحتجاج وتكوين وعى جديد للمعارضة ولدت فى الشارع. جورج خسره موقع النائب بعدما استخدمت الأسلحة المُحرَّمة الورقة الطائفية بكل قدرتها على تغييب الوعى، كيف يمكن اختصار جورج إسحاق فى أنه مسيحى، و«لا ولاية لمسيحى» كما تخيف الجماعات المتطرفة بأفكار بعيدة عن العملية السياسية الحديثة؟ نظام «الولاية» ينتمى إلى نموذج الدولة فى زمن مختلف ولا يمكن إعادته، ولا يرتبط الإسلام بهذا الزمن فقط، لأن هذا يتناقض مع مقولة أساسية لدى نفس التيار «الإسلام يصلح لكل زمان ومكان»، كيف يرتبط الإسلام بنموذج دولة انتهى زمنها؟ ولماذا يريد دعاة التطرف أن يعيدوا الزمن إلى ما يتصورون أنه الزمن الذهبى رغم أنه من نفس منطقهم الإسلام صالح لكل زمن؟ جورج تعرض لحرب بالأسلحة المُحرَّمة وبالخداع السياسى الذى يوهم الناخب أنه فى معركة دينية لا معركة من أجل مصلحته السياسية، خداع آخر وهو أن التيار الذى حارب جورج اختار أكثر المناطق إظلاما فى تاريخ الدولة الإسلامية حين كان يضطهد الحاكم المستبد الجميع باسم الإسلام، بينما كان الإسلام أرحب فى فتاوى فقهاء آخرين يعتبرون الاختيار فى أمور الدنيا بمعايير الكفاءة والقدرات العملية. لم يكن جورج أبدا مرشح طائفته، ولا كان وجوده السياسى معبرا عن انتماء دينى لكنه ينتمى إلى ثقافة تعدد ونهضة تقوم ضد كل العناصر الفاعلة فى دولة الاستبداد. المعركة لم تكن بين ليبراليين وإسلاميين.. لكنها معركة بين تسلط وديمقراطية.. التسلط استخدم الأسلحة المُحرَّمة، والديمقراطية لم تؤسس شبكتها الاجتماعية بعد. وهنا تأتى أهمية معركة جميلة إسماعيل.