طوال 50 عاما لم يكن لدىّ كل هذه الثقة والاعتداد بالنفس مثل الآن. والآن يعنى هذه المرحلة التاريخية الممتدة من 25 يناير إلى 25 نوفمبر 2011. اكتملت ثقتى بنفسى فى 19 نوفمبر. وأدركت أن مصر ليست إطلاقا تونس ولا ليبيا ولا اليمن ولا سوريا. مصر هى مصر المبدعة والغريبة والمدهشة. لن أعاتب الذين أغضبونى وأدهشونى وجعلونى أشعر بالغباء عندما رحبوا بالعسكر فى بداية الثورة الأولى. ولن أستخف بالذين شعروا بالانتصار بمجرد تنحى مبارك، فانتحوا جانبا مريحا بل ورحبوا بعضو لجنة السياسات فى رئاسة ليس فقط الحكومة، بل ورأى فيه البعض زعيما. كلنا أبناء هذا البلد «ومبروم على مبروم مايركبش أبدا». هكذا قالها المصريون، ويقولونها بخفة وروقان وبغمزة عين. المسألة، من الآخر، هى طول نفس، مما يعنى، شئنا أم أبينا، أنهارا من الدماء وأعدادا من المصابين والعَجَزة وكلهم شباب وشابات مثل الورد. ولكن طول النفس يعنى أيضا الانتصار. نعم، مصريون مع مصريين. كل طرف ولد وترعرع وعاش فى مصر. أكل وشرب من ثقافتها وصبرها وعجزها وخفتها وروقانها وزهزهتها وصياعتها وصعلكتها. طرف يمسك بالسلطة (الحديد والنار) ويعول على طول النفس، نَفَسُه هو بطبيعة الحال. وطرف يقبض على الجمر ويعتمد الصبر الإيجابى بوصلة فى مواجهة الحديد والنار. طرف السلطة، كأى مستبد ومجرم، لن يفهم إلا وهو على حد الموسى. والطرف الآخر، كأى بطن ولّادة، لا يعرف الاستكانة والاستقرار السلبيين. هكذا تشكلت معادلة الأشهر العشرة إلا أسبوعا واحدا، حاول طرف الاستبداد والإجرام فيها استخدام كل الوسائل الممكنة (لتقليب -بلغة الحرامية) الطرف الآخر واستنفاد أكبر قدر من طاقته. بينما الطرف الآخر (ابن حرام -بلغة الحارة) يغمز بعينه ويضحك «مبروم على مبروم مايركبش». نعم، مصر ليست، ولن تكون أبدا، تونس وليبيا واليمن وسوريا، لأن المصريين خلعوا مبارك وأسرته فى المرحلة الأولى. وظن مبارك وحواريوه وأزلامه الذين تصوروا أنهم أحكموا قبضتهم على الوضع وأعادوا المصريين إلى «الحظيرة»، أنهم نجحوا. استخدموا كل أدوات مبارك ومن قبله. استخدموا ألاعيب جديدة-قديمة مثل عقولهم وأرواحهم. تصوروا أنهم نجحوا فى تدجين المصريين باستخدام الإخوان تارة والوفد تارة أخرى والبلطجية تارة ثالثة والسلفيين تارة رابعة، وتصور كل فصيل أن الدنيا بدأت تضحك له لأنه أصبح قريبا من البيادة. ولكن لم يكن أحد من كل هؤلاء يتصور أن المصريين أدهى بكثير مما يعتقد الجميع. أنت، أيها البيادة، تقلّبنى، وأنا الذى اخترعت هذا المصطلح. إذن، هات ما عندك، يا حبيبى. وأنتم، يا زلنطحية، تلعبون معى السيجة وتذهبون لشرب الشاى بالياسمين كل ليلة. إذن، اذهبوا فالشاى أذواق، وأنا أحب الشاى الكشرى. المسألة ببساطة أن البيادات والزلنطحية كانوا يقلّبون بعضهم البعض من جهة، ويقلّبون معا المصريين من جهة ثانية أيضا. والمصريون بشربون شايهم الكشرى ويغمزون «مبروم على مبروم مايركبش». كانت هذه هى معادلة الشهور العشرة الأولى من الثورة. وكل معادلة ثورية بها ثوابت مثل (الانتهازية والحقارة والوضاعة والاستبداد والقتل والإجرام)، وبها أيضا متغيرات مثل (الخجل ومراجعة النفس وإعادة التفكير وإمعان التفكير واستيقاظ الضمير). هناك أيضا نسبة خطأ فى أى معادلة مثل (الانخداع والخداع وانعدام المبدأ وضعف الشخصية والتصورات المثالية). لا يهمنا فى هذه الثلاثية إلا المتغيرات ونسبة الخطأ. وهما عاملان مهمان فى أثناء عملية تحريك الواقع وإعادة صياغته. لم يكن لدى التونسيين أو الليبيين أو اليمنيين أو السوريين وقت، مثل المصريين، لدراسة ما جرى بتأن وروية ولكاعة مصرية أصيلة. فمبروم على مبروم مايركبش. هل كان الزلنطحية والبيادات يتصورون أنهم أذكى وألكع من المصريين؟! مستحيل. هل تصور المصريون أن الثورة انتهت بإراحة مبارك وأولاده وحوارييه؟! مستحيل. الفكرة فى عملية «التقليب». لذا، فالأمر مختلف تماما فى مصر عن كل الدول الأخرى، حتى فى بريطانيا والولايات المتحدة والبحرين. الزلنطحية والبيادات يلجؤون إلى كل الأساليب ويقلدون أنظمة الدول الأخرى، لكن المصريين لا يقلدون أحدا على الإطلاق. هكذا نحن، وهكذا خلقنا الله وسلمنا لهذه الأرض المصرية. كان من الصعب جدا «كرْوَتة» الموضوع، وانتهاء الأمر بشالوا ألضو حطوا شاهين. من الممكن أن يطلق أى إنسان الرصاص على رأسه عندما يرى العربة أمام الحصان. هناك عقلاء يبدون دهشتهم من ذلك ويبتسمون. وهناك انتهازيون وزلنطحية لا يهمهم إلا القفز على العربة أو حجز مكان فيها حتى لو كان الحصان تحتها. وهناك مصريون يقولون لك، نعم، هذا اختراع عبقرى، هذا هو عين الصح، توكل على الله، ثم يلتفتون إلى بعضهم البعض ويغموزن: بيقلّبونا ولاد ال... ههه، همّا مش عارفين إن مبروم على مبروم مابيركبش؟! حتى لو أخليتم ميدان التحرير بالحديد والنار، حتى لو قتلتم سعيد ومينا وسيد بلال، حتى لو عريتم كل بنات مصر.. سنضحك فى الحوارى والأزقة وعلى مقاهينا وسنؤكد لكم أن ما تفعلونه هو عين الصح.. توكلوا على الله.. لكن تعلموا أن لا تعتذروا أو تطلبوا الصفح وكونوا شجعانا عندما يأتى وقت الحساب.. فدماء ضحايانا تدمى أرواحنا.. ونحن بالفعل فى قمة غضبنا منكم وعليكم.. ولن نسامحكم أبدا.