وثيقة المبادئ الأساسية للدستور التى أطلقت من خلال على السلمى نائب رئيس الوزراء لشؤون الإصلاح السياسى، واشتهرت باسمه، أثارت الكثير من الجدل بين معارض وموافق ومتحفظ. ولكنها كشفت أيضا الكثير من الحسابات والتوازنات لدى القوى السياسية والأحزاب. القوى الإسلامية التى اعتبرت نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية نصرا مبينا حتى إنها أطلقت عليها لقب «غزوة الصناديق»، وتستعد لانتصارات تالية فى الانتخابات البرلمانية، وبالتالى فى الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور الجديد. هذه القوى اعتبرت أن الوثيقة محاولة للانتقاص من نصرها، والتى تسعى لتوسيعها بعد الإطاحة بمبارك. هكذا جاء رد الفعل من القوى الإسلامية قويا وحاسما بالرفض والتهديد بالنزول للشارع فى مليونية لاستعراض القوى وتأكيد قدرتها على الضغط والحفاظ على ما حققته وزيادته. رد الفعل الحاسم هذا لم تظهره القوى الإسلامية فى قضايا أخرى مثل إصدار قانون الغدر أو وقف المحاكمات العسكرية أو غيرها من القضايا التى لم تمثل نفس التهديد لمكاسبها. المنهج العملى الذى اتبعته الحركة الإسلامية وكبرى فصائلها «الإخوان المسلمين» ما زال هو الحاكم فى مواقفها بعد ثورة يناير. بعض القوى السياسية «المدنية» لم تكن أقل عملية من الإسلامية، فالوثيقة التى تعطى وضعا خاصا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة حظيت باستقبال جيد من بعضها مع بعض التحفظات، وفى الوقت نفسه مع رفض تصعيد الإسلاميين ضد الوثيقة. ربما يبدو غريبا بعض الشىء أن تتقبل قوى سياسية مدنية بصلاحيات لسلطات عسكرية قد تصل إلى حد الواضح أنها اختارت لا بين السطة المدنية والسلطة العسكرية، ولكن ما تراءى لها أنها تختار بين السلطة الدينية والسلطة العسكرية، فكان الخيار واضحا، وهو أن بعض الصلاحيات للعسكرى قد تحد من تصاعد نفوذ الإسلاميين. التناقض بين القوى المدنية والقوى الإسلامية يدركه الطرف الثالث وهو المجلس العسكرى منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية والتى دافعت خلاله القوى الإسلامية بقوة عن المجلس العسكرى فى مواجهة القوى المعترضة على الاستفتاء. وهو الموقف الذى انعكس بالكامل اليوم. هكذا استطاع المجلس الاستفادة من هذا التناقض عبر التلويح بمكاسب لطرف على حساب الطرف الثانى من وقت إلى آخر. الطرف الوحيد الذى لم يظهر فى حديث الوثيقة هو الجماهير لم تغب الجماهير فقط، بل غابت قضاياها أيضا. بالطبع تعتبر قضايا السلطة وطبيعتها وتداولها من القضايا التى تخص الجماهير لا النخب السياسية فقط. ولكن المجتمع الذى اندلعت فيه الثورة كان هو المجتمع الذى عانى 40% من سكانه من الفقر وأكثر من خمسة ملايين من عماله من البطالة حسب أفضل الإحصائيات. وتدهورت فيه أوضاع الصحة والتعليم والسكن والمرافق والخدمات إلى آخر الأزمات التى خلقتها ثلاثون عاما من حكم مبارك وفريقه. فى مقابل سيطرة العائلة الحاكمة ومحيطها القريب على مقاليد السلطة والثروة. هذه الأوضاع التى انتفض ضدها المصريون، والتى لم تتعرض لها وثيقة المبادئ التى كانت أكثر انشغالا بقضية السلطة وتوازنات وتناقضات القوى السياسية. المؤكد أن قوانين تفصيلية يمكن أن تصدر لاحقا للصحة والسكن والتعليم والعمل وغيرها من القضايا التى تعانى منها قطاعات واسعة من المصريين. ولكن الأمر ينطبق أيضا على الحياة السياسية التى من الممكن أن تصدر بشأنها قوانين، ولكن الوثيقة ارتأت أن هناك مبادئ أساسية ينبغى أن يضمها الدستور الجديد الذى سيصدر لاحقا. ربما كانت الوثيقة التى يحتاج إليها الشعب المصرى اليوم هى تلك التى تضع مبادئ أساسية يسترشد بها الدستور الجديد وتحاول أن تقنع من قاموا بالثورة بأن الأوضاع التى ثاروا ضدها آخذة فى التغير. وثيقة كتلك كان من الممكن أن تتضمن قواعد لحماية الملكية العامة ومنع احتكار ثروات المجتمع والتحكم فيها وتبديدها على غرار ما حدث فى برنامج الخصخصة. كان من الممكن، أو من الواجب، أن تتضمن إلزام أى سلطة قادمة بحماية مبدأ تكافؤ الفرص والعمل على القضاء على البطالة والفقر والأمراض المتفشية. كان لا بد أن تتضمن الوثيقة التى غابت فصل السلطة عن الثروة وسد الثغرات التى تؤدى إلى تحكم طغمة المال فى مصائر المجتمع. كان المجتمع فى حاجة إلى وثيقة ترسم له الطريق نحو التقدم والتحديث وإزالة آثار الماضى. الكثير من الأمور كان من الممكن أن يمثل وثيقة تليق بالثورة المصرية، أن الثورة انتصرت وأن ثمارها فى الطريق. ولكن الوثيقة التى طرحت عبر السلمى على الأحزاب والقوى السياسية كانت معنية بالأمور التى تشغل الأحزاب والقوى السياسية والمقبلة على انتخابات برلمانية تنعش الطموحات فى المشاركة فى السلطة لدى مختلف القوى بما فيها فلول الحزب الوطنى. حضرت وثيقة وغابت أخرى. حضرت وثيقة تقسيم السلطة إلى حصص ومقاعد وغابت وثيقة الشعب الذى ثار ضد أوضاع الفقر والاضطهاد والقمع. حضرت الوثيقة التى تنعش التناقضات بين القوى السياسية ومخاوف بعضها من بعض. وغابت الوثيقة التى توحد جموع المصريين حول أهدافهم المشتركة فى بناء مجتمع تسوده الحرية والعدالة الاجتماعية. غابت الوثيقة التى تقطع الطريق على عودة النظام المخلوع وقواعده التى أتقنها دائما عندما كان يستخدم انتهازية القوى السياسية الرسمية وتناقضاتها مع بعضها البعض وإلقاء الفتات لها لينعم بالاستقرار فى ظل معارضة هادئة وأليفة ومستعدة للوقوف ضد مصالح الجماهير للدفاع عن النظام، بل ومستعدة لمساندة النظام الذى تعارضه ضد قوى أخرى، طمعا فى نصيب أكبر من الفتات. غابت الوثيقة وغيب أصحابها الذين عقدوا الآمال على الثورة فى أن تحسن أوضاعهم وظروفهم ويحظوا بحياة كريمة تصون إنسانيتهم. غيب أصحاب الوثيقة الغائبة كما غيبوا من قبل لعقود، وغابت قضاياهم وهمومهم على الموائد كما حدث من قبل، قبل الانفجار، وكأن من غيبوهم اليوم لم يتعلموا شيئا من تغييبهم من قبل.