كنت أشكو لها من معاناة إصلاحات الشقة، كنت أقف وسط الصالة، حولى كراكيب من كل صنف، ورائحة الدهان المستفزة لى تملأ المكان، وأصوات العمال تأتى من الغرفة الداخلية مختلطة بصوت شريط كاسيت لمطرب شعبى لا أعرف اسمه. صديقتى كانت وقتها ما زالت غير مرتبطة وتعيش فى بيت أمها، قلت لها «أنا أعصابى تعبت من الفوضى والله العزال أسهل». قالت بينما تجلس على كوم من الكتب وتمسك كتابا تتصفحه «أنا كمان باكره البياض، أكره دهان الحيطان، لأنه بيمحى الذكريات، أنا باحب الذكرى المطبوعة على الحيطان حتى لو كانت مجرد خربشة أو حتى بقع». التعليق أدهشنى.. وأغاظنى. أنا منهارة من ثقل المسؤولية وهى تحلق مع الذكريات. بعد سنوات وسنوات فرقت بيننا ذهبت لزيارتها فى بيت أمها، كانت عائدة فى إجازة نصف سنوية، هى تعيش حياة كاملة فى أمريكا منذ زمن، ورغم إصرارها على أن تقضى فى القاهرة أغلب إجازاتها فإنها أصبحت زائرة أو ضيفة. أدخلتنى فى غرفة واسعة تحتوى على كمية كبيرة من المفروشات لا تربط بينها أى علاقة، سريران كبيران غير متشابهين، أحدهما ذكّرنى بالسرير الذى كنت أنام عليه مع أختى وأمى فى طفولتى. هذا السرير الذى بلا أى ملامح لكنه أليف وقريب إلى القلب. واتنين كومودينو متشابهان وثالث متفرد، مرآة كبيرة، دولاب من طراز أقدم كأنه أنتيك لكن به بعض التلف، وتسريحة يقترب طرازها قليلا من طراز الدولاب لكن ليس نفسه. أشرت إلى التسريحة وقلت لصاحبتى: «التسريحة دى تحفة». قالت: «دى بتاعة جدتى، والكنبة اللى إحنا قاعدين عليها دى برضه بتاعة جدتى، أمى بتعتبر الحاجات دى كراكيب، لكن أنا باعتبرها جزءا من حياتى، عشان كده باضغط عليها كل إجازة إنها تفضل محتفظة بيها». قلت: «يمكن كنت هاتعملى العكس لو كنت عايشة فى مصر زينا، إحنا متعودين نتخلص من الأثاث القديم، يعنى لو كنت أنا مكانك يمكن كنت احتفظت بالتسريحة بس ويمكن لأ». قالت: «أنا مش محتفظة بأثاث، أنا محتفظة بذكرياتى، أنا كنت بأقعد تحت رجلين جدتى وهى قاعدة على الكنبة دى بالساعات، أنا باحس إن رجلين الكنبة دول أصحابى، وبارجع لهم فى الإجازات». ضحكت: «أيوه يعنى أنا زى رجلين الكنبة؟». ابتسمت ولم ترد. بعد تلك الزيارة.. شعرت بأننى مفتقدة سريرى الكبير بشدة.. تمنيت لو كنت احتفظت به، ومفتقدة أكثر ذراع أمى التى كنت أنام عليها.. وأندهش عندما تسحبها من تحت رأسى معتذرة بأنها أصابها الخدر.. كانت تقول (دراعى نمل) ولم أكن أفهم معنى كلمة (نمّل)، بالتأكيد لم يكن ممكنا الاحتفاظ بأمى وذراعها، لكن السرير لماذا لم أحتفظ به؟!