المواطن المريض يعانى من نقص الدم، ولو أنه تبرَّع بشىء من دمه، عندما كان صحيحا معافى، ولو فعل أقاربه هذا، وفعل أصحابه وأحبابه هذا، لما وجد مشكلة عندما يحتاج إلى الدم، ولو اعتدنا كلنا أن نتبرع بالدم، فى فترات منتظمة، لما احتاج مريض واحد إلى الدم، وعجز عن الحصول عليه.. والتبرع بالدم وسيلة من الوسائل التى تثبت لنا أننا شعب قادر على التكافل والتآزر، وأننا كالبنيان، يشد بعضه بعضا، فإذا تداعى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء.. وعلى الرغم من أن التبرع بالدم يحدث دوما، منذ عشرات السنين، فإنه توجد دائما، وفى كل بلاد العالم، حاجة مستمرة إلى الدم لأكثر من سبب، ثم إن التبرع بالدم لا يسبِّب للمتبرِّع أى أضرار، بل يعمل على تنشيط نخاعه العظمى، ويعيد إلى جسده حيويته، وإلى دورته الدموية ديناميكيتها، بالإضافة إلى أنه نوع من الصدقة، التى يمنحها حتى غير القادر لمن حوله، عن رضا وطيب خاطر، ليربح بها صحة فى الدنيا، وفضلا وثوابا فى الآخرة، يوم سيحتاج إلى ما هو أكثر وأهم بكثير من دم الدنيا كله.. إلى رحمة الله عزَّ وجلَّ.. وسيبنا من الحكومة، فدورها ليس فى أن تعطينا الدم، فنحن سنعطيه، والمطلوب منها بعد هذا أن تحافظ عليه وعلينا.. لو عندها دم.. فى شبابى اندلعت حرب أكتوبر 73، ودعوّنا الله أن ننتصر، لنعوِّض هزائم الماضى، ونسترد كرامة اشتقنا إليها طويلا، وعندما سمعنا فى الراديو والتليفزيون أن المصابين يحتاجون إلى الدم، هرعت وكل زملائى إلى مراكز التبرع بالدم، وكان علينا أن نقف فى طابور طويل، لما يقرب من ساعة، حتى يتبرَّع كل منا بنصف لتر من دمه، وهو يشعر أنه بهذا الدم أصبح جنديا فى ساحة المعركة، ويتمنى أن تنقذ قطرة من دمه واحدا من أبطال الحرب، فيكون هو أحد من صنعوا النصر.. وفى ذلك الحين، كانوا يمنحوننا علبة من المربى المحفوظة، كوسيلة لتعويض الدم، حيث لم تكن العصائر المحفوظة منتشرة أيامها، وكنا -كشباب- نرى أن العار كل العار أن يحصل واحد منا على علبة المربى، باعتبار أنه قد منح دمه للأبطال فى سبيل الله، ولا يصح أو يجوز أن تتقاضى ثمنا لما تقدِّمه إلى أبطالك، فالثمن الذى تنشده أكبر وأعظم بكثير من هذا، وكنا نرفض أخذ علبة المربى فى شمم وكبرياء، وعندما أخذها واحد منا، كدنا نفترسه بعيوننا امتعاضا، حتى إنه أعادها بسرعة.. وما زال للحديث بقية.