في شبابي اندلعت حرب أكتوبر 73، ودعوّنا الله أن ننتصر؛ لتعوِّض هزائم الماضي، ونسترد كرامة اشتقنا إليها طويلاً، وعندما سمعنا في الراديو والتليفزيون أن المصابين يحتاجون إلي الدم، هرعت وكل زملائي إلي مراكز التبرع بالدم، وكان علينا أن نقف في طابور طويل، لما يقرب من ساعة، حتي يتبرَّع كل منا بنصف لتر من دمه، وهو يشعر بأنه -بهذا الدم -أصبح جندياً في ساحة المعركة، ويتمني أن تنقذ قطرة من دمه واحدًا من أبطال الحرب، فيكون هو أحد من صنعوا النصر.. وفي ذلك الحين، كانوا يمنحوننا علبة من المربي المحفوظ، كوسيلة لتعويض الدم، حيث لم تكن العصائر المحفوظة منتشرة أيامها، وكنا - كشباب - نري أن العار كل العار أن يحصل واحد منا علي علبة المربي، باعتبار أنه قد منح دمه للأبطال في سبيل الله، ولا يصح أو يجوز أن تتقاضي ثمناً لما تقدِّمه، فالثمن الذي تنشده أكبر وأعظم بكثير من هذا، وكنا نرفض أخذ علبة المربي في شمم وكبرياء، وعندما أخذها واحد منا، كدنا نفترسه بعيوننا امتعاضاً، حتي إنه أعادها إلي المكان، وسأل عن أقرب فترة، يمكنه بعدها التبرُّع مرة أخري بدمه، فأخبروه بأن هذا يمكن بعد شهرين.. وسمعنا كلنا هذا، ولكننا لم نطق الانتظار شهرين كاملين، قبل أن نتبرع بدمنا مرة أخري، ولم نتخيَّل أن المصابين من أبطالنا يمكنهم أن ينتظروا شهرين كاملين، لذا فقد انتهزنا فرصة قدوم حملة تبرع بالدم إلي نادي مدينتي طنطا، فهرعنا كلنا، بلا استثناء تقريباً، لنتبرع بنصف لتر آخر، وكذبنا كلنا أيضاً، عندما سألونا عما إذا كنا قد تبرعنا بالدم من قبل أم لا، وعندما أخبرت والدتي، كادت تصاب بأزمة قلبية، وعنفتني بشدة علي تبرعي بالدم مرتين في أسبوعين متتاليين، ونمت يومها بصمت ثلاث ساعات، وفي المساء، كنت مع كل الأصدقاء في النادي، نتابع أخبار الحرب في شغف.. من يومها تعلَّمت أن التبرع بالدم ليس منهكاً أو مهلكاً كما يتصوَّر العامة، ولكنه يحتاج إلي ضوابط، حرصاً علي صحة المتبرع، فالأسبوعان يجب أن يصبحا أربعة أو ستة أشهر، أو حتي سنة... وهذا ما أدعوكم إليه.. فتابعوا.