لا أجد أى حرج فى الاعتراف بأننى لست أعرف، أو بالأحرى لست متأكدا من متانة الأساس القانونى الذى بَنت عليه محكمة القضاء الإدارى فى المنصورة حكمها مساء الخميس الماضى بإلزام المجلس الأعلى للقوات المسلحة ولجنة الانتخابات العليا اتخاذ إجراءات تمنع أعضاء سابقين فى حزب المخلوع أفندى المنحل من الترشح فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى المقبلين، ورفع أسماء الذين تقدموا منهم بأوراق ترشحهم من قوائم المرشحين الرسمية. لكن الأمر الذى أعرفه ومتأكد منه تماما أن هذا الحكم الخطير جاء حاملا إشارة قوية إلى واحدة من أسوأ تجليات الطريقة الارتجالية المرتبكة والمترددة (تمدحها لو اعتبرتها تآمرا) التى أدار بها جناب المجلس العسكرى شؤون البلاد بعد الثورة، بينما جنابه يجمع فى يديه مقاليد السلطتين التنفيذية والتشريعية معا، وكان الأمل أن يستخدمهما فى بناء جسر يعبر عليه المجتمع والدولة بأمان وسرعة معقولة، من واقع يشغى بشتى صنوف الظلم والقهر والتخلف والخراب إلى مستقبل مشرق تظلله الحرية والعدالة اللتان لا نهوض ولا تقدم من دونهما. غير أن معالى المجلس المذكور (مع كامل التقدير لاحترام عقيدة جيشنا الوطنى القائمة على حماية الشعب لا قمعه) بدا غير مقتنع وغير قادر على ابتلاع حقيقة أن ثورة شعبية عارمة قامت فى البلاد، وأنها كأى ثورة فى الدنيا، لها احتياجات ومتطلبات عاجلة وضرورية أهمها تطهير الحاضر من «زبالة» الماضى حتى يمكن الشروع فى بناء صرح المستقبل على نظافة. والحال أن المجلس العسكرى لم يفعل شيئا من ضرورات التطهير هذه إلا بالعافية وفى أضيق نطاق، وبعد إهدار وقت ثمين فى مراوغات ممضة وتلكؤات مضنية، ومن ثم بقيت قائمة طويلة من مخلفات النظام المدحور قائمة راسية على قلوبنا ومعششة فى أغلب مفاصل الدولة الحساسة، فلما أتت الانتخابات (دعك من كيف أتت) رأينا كيف أن أغلب معطيات الواقع التى تسمح بتشويه وتزوير إرادة الناخبين من المنبع ما زالت كما هى، ولم يمسسها تغير يذكر، بل إن بعض التغيير كان للأسوأ (كالتغاضى مثلا عن حكم القانون والسماح بتأسيس أحزاب تتسربل علنا بعباءة الدين)، وفى المقابل عاند أخونا العسكرى عنادا شديدا وامتنع بإباء وشمم عن تطبيق قواعد «العدالة الانتقالية» التى صارت مفهوما قانونيا إنسانيا مستقرا ومعترفا به فى الدنيا كلها، ومن هذه القواعد فرض نوع من العزل السياسى المؤقت على رموز وأركان النظام الساقط كإجراء احترازى يحول بينهم وبين استغلال بقايا نفوذهم الهائل وثرواتهم الطائلة التى راكموها باللصوصية والفساد فى إعادة إنتاج الحالة المزرية نفسها التى ثار الشعب وضحى بأرواح المئات من أجمل شبابه، لكى ينهيها مرة واحدة وإلى الأبد. إذن فقد تقاعس المجلس العسكرى عن واجبه، ولم يستخدم سلطة الحكم التى منحها له الشعب فى نقل الضرورات العاجلة للثورة من فضاء المطالبات الملحة إلى حيز التنفيذ، تاركا لمحكمة القضاء الإدارى بالمنصورة مهمة الحكم فى الموضوع (!!)، وهنا بالضبط تكمن أهمية وخطورة الحكم القضائى آنف الذكر. فأما عن الأهمية فهى واضحة فى «التبرير السياسى» البليغ والمسهب الذى زينت المحكمة حكمها به، إذ ذَكّرت الكافة بأن قيادات وأعضاء الحزب المنحل «أهدروا الحقوق والحريات وقوّضوا دعائم الديمقراطية فى البلاد، وقاموا بتزوير إرادة الشعب (..) طوال ثلاثين عاما واحتكروا لأنفسهم -زورا وبهتانا- صفة تمثيل الشعب (ولهذا) ليس لهم أن يطالبوا بحقوق لطالما حرموا الشعب منها، بل عليهم أن يذوقوا الحرمان عينه لفترة مؤقتة ولحين تَطهّر المجتمع من أفعالهم..». لكن هذه البلاغة فى التأصيل والتبرير السياسى للحكم لا يجب أن تحجب عن إدراكنا ووعينا الخطر الراقد فى ملاحظتين اثنتين لم يستطع العبد لله (رغم رضائى عن مضمون الحكم) أن يسكت عنهما، أولاهما أن المحكمة عندما لم تجد فى التشريعات والقوانين ما يسعفها توسعت فى استنطاق وتأويل حكم المحكمة الإدارية العليا بحل حزب العصابة الساقطة توسعا تجاوز فى رأيى الحدود المعقولة والمقبولة قانونا. أما الملاحظة الثانية الأكثر أهمية وخطورة، فهى أن نرتاح ونتعود على سد ثغرات وعلاج أخطاء السياسة وتقاعسات السلطتين التنفيذية والتشريعية بأحكام المحاكم.. هذا خلط غير محمود العواقب لنطاق عمل سلطات الدولة الثلاث المعروفة، ويعصف مبكرا بالمبدأ العمدة فى النظام الديمقراطى الذى نحلم به ونبتغيه، أى مبدأ الفصل الكامل بين السلطات.