أفندم! وعلى الطرف الآخر من الخط المتقطع كشخص يحتضر، أصغيت إليها، بينما هى تحاول بلا جدوى تقليد صوتى الغائم الأجش من باب السخرية: أفندمين يا أخى! لا أدرى لماذا لجأت إلى المبالغة الكاريكاتورية، إبرازا لأوجه القبح التى لا تحتاج أصلا إلى إبراز، ملايين السجائر التى دخنتها على مدى العمر، عشرات الآلاف من الشروخ العميقة التى تراكمت فوق بعضها، كآثار الجراح القديمة عندما تتلاحم مع آثار الجراح الأقدم، مخترقة صندوق الرنين، بأحباله التى تمزقت -أو كادت- من كثرة ما أسأت معاملتها فى أثناء المظاهرات على نواصى العالم فى مطالع الشباب، فضلا عن تشكيلة الأساليب القمعية التى ظللت أمارسها، لأمنع زفرة التأوه من مغادرة الشفتين لحظة الشعور بالألم، كل هذا حال دون أن تنجح فى انتحال شخصية حنجرتى التى غدت، فعلا لا مجازا، كخرابة تعربد فى جنباتها رياح الهزائم، قلت فى نفسى: الحنجرة كالبصمة، إنها هى الأخرى تصلح كمدخل لمعرفة تاريخ حياة الإنسان، التقاط أدق تفاصيلها -بالآذان فوق البنفسجية- لا يختلف كثيرا عن استعراض الصور التذكارية -لشخص ما- ضمن ألبومه السرى، لا يختلف كثيرا عن التجول داخل عقله الباطن. أنا: من؟ هى: كل الناس فى التليفون يهمسون برقة: ألوه! إلا أنت، كعسكرى الدورية الذى اختفى: أفندم! الرد على التليفون يا أستاذ، كاستقبال الضيف، له آدابه التى يعرفها حتى الزبالون، ابتسامة الترحيب التى نستقبل بها ضيوفنا، يجب أن نرشها، كقطرات العطر، على كلمة: ألوه، بحيث تعبر عن مدى فرحتنا بزيارتهم، أما أفندم بتاعتك دى، فكمن يبعث لصديقته فى عيد ميلادها، بدلا من أزهار الجاردينيا، بحزمة فجل، أين تربيت؟ فى نقطة بوليس؟ وعلى فكرة: كتاباتك تبدو لى.. كيف أشرح الأمر لك؟ لا تغضب هذه المرة من صراحتى كتاباتك تبدو لى من أسخف الأشياء فى هذا الوجود! ألوه! ألوه! هل انقطع الخط؟ ألوه! ألوه! أين ذهبت؟ أنا: أفندم! هى: تانى! لا فائدة! ماذا كنت أقول؟ تذكرت، كتاباتك تصيبنى بالأرتيكاريا! فاهم؟ بالأرتيكاريا! إنها تبدو لى نكدية، متطاولة، بالغة الوقاحة! أنا: لا يوجد من هو أقل منى إعجابا! بما أكتبه، نحن متفقان إذن فى هذه الجزئية على الأقل. أما حكاية الأرتيكاريا هذه، فلا أظن أن لى أدنى علاقة بها! أقترح أن تبحثى عن الأسباب الحقيقية لها بعيدا عنى. هى: أتدرى ماذا يقولون عنك؟ ألوه! ألوه! ما هذه الخرفشة؟ ألوه! ألوه! هل تليفونك ما زال موضوعا تحت المراقبة إلى الآن؟ أنا: تلك مسألة لا تشغل بالى كثيرا، فما أقوله لأصدقائى بالتليفون هو -بالضبط- ما أكتبه، لا شىء تغير على ما يبدو، الظاهر أنهم لا يتعلمون أبدا من أخطاء الماضى. هى: لماذا تتهرب من السؤال؟ أتدرى ماذا يقولون عنك؟ أنا: من؟ الذين يراقبون تليفونى؟ هى: حراس التقاليد الشرقية الأصيلة! كل الناس الطيبين الذين لا يقبلون إذلال رئيس الجمهورية، الذى تجاوز الثمانين من عمره بهذه الطريقة، ألم تر كيف حشروه على السرير المتحرك داخل القفص؟ هل هذا يليق بأمة متحضرة؟ ماذا سيقول العالم عنا؟ سيقولون إننا لا نحترم شيخوخة رجل كان رئيسنا لمدة ثلاثين عاما. أنا: لا تحملى أنت هم العالم. إنه مبهور بثورة 25 يناير الرائعة، فقط قولى لى: متى احترم هو شيخوخة أحد؟ أين كانت هذه المشاعر المرهفة، عندما قام الرئيس المجبر على التنحى بوصف المناضل الكبير، الأستاذ فتحى رضوان، قائلا: «الراجل يظهر كبر وخرف»؟ كل الحكاية أن الأستاذ فتحى رضوان طالب الرئيس بالتنازل عن بعض صلاحياته التى بلا نهاية، فما كان من الرئيس المخلوع إلا أن عايره بالشيخوخة، بل إنه شكك فى سلامة قواه العقلية. كنت أعرف -قبل أن تتصل بى- أن هذه المذيعة من اللائى لم يعتذرن إلى الشعب المصرى، وأنها -حتى بعد ثورة 25 يناير- ظلت وثيقة الصلة بأجهزة الأمن. هى: أقل ما على المصريين الآن أن يقدموه إلى بطل الضربة الجوية هو إيقاف هذه المهزلة فورا، الحد الأدنى من الاعتراف بالجميل يقضى بإعادته -معززا مكرما- إلى قصر العروبة مع زوجته ونجليه، لعله يسامحنا على هذا الجحود الذى لا يتفق مع أخلاق المصريين. أنا: مبلغ علمى أن جمعية «آسفين ياريس»، هى كل ما تبقى فى الشارع من الحزب الوطنى، وهى أقرب إلى الفولكلور، مبلغ علمى أن أعضاءها لا يتورعون عن استخدام العنف فى حماية الشرطة ضد من يطالبون بالقصاص، وعلى افتراض أننا فعلنا ما تقترحينه، فماذا نقول لأهالى ما يقرب من ألف شهيد؟ هل نكتفى بجعل الرئيس المخلوع يبوس على راسهم وصافى يا لبن؟ ماذا نقول لسبعة آلاف من المصابين؟ هل نقول لهم: «اللى فات مات، وإحنا ولاد النهاردة، وتعالوا نفتح صفحة جديدة؟ الملايين التى تعيش فى العشوائيات أو المقابر لن تسامحه على نهب أموال البلد، بينما يتصارعون هم مع القطط والكلاب الضالة على محتويات صفائح القمامة، كيف نحتمل نظرة الاتهام بالخيانة فى أعين أسر ضحايا العبارات، والقطارات، والمبيدات المسرطنة والتعذيب حتى الموت فى سلخانات لاظوغلى؟ انقطعت السكة، فابتسمت. أقصد أننى حاولت أن أبتسم. لكننى هذه المرة أيضا لم أنجح. ربما الشتاء القادم، أو مع بداية السنة الجديدة.