أى منطق فى الدنيا، يقول إن الإنسان العاقل يثور، على ما (لم) يحدث، وليس على ما (لن) يحدث، لأن ما(لم) يحدث هو أمر واقع، نراه بأعيننا، ونرصده بكل حواسنا، ويستطيع البعض منا تحليله وفهمه بحكمة، والبعض الآخر بانفعال وحدة، والبعض الثالث بسلبية، وقبول بالواقع، أيا كانت ماهيته، أما ما(لن) يحدث، فهو أمر فى علم الغيب، لا يستطيع شخص واحد أن يجزم بحتمية حدوثه من عدمها، ومع (لن) تتدخّل أمور عديدة، تختلف من شخص إلى آخر، ومن تصوّر إلى تصوّر، ومن فكر إلى فكر، فهناك من يرى المستقبل بعين تشاؤمية، ويفترض الأسوأ، فى كل ما يراه، ويتعامل بهستيريا نظرية المؤامرة، فى كل خطوة من حياته، ومثل هذا الشخص يستحيل إقناعه بأنه على خطأ، وبأن إيمانه بنظرية المؤامرة، وتجاربه السابقة معها، يشوّش على حسن تفكيره، وتقييمه للأمور، ويجعله يفترض دوما الخدعة، فى كل ما يحدث، مما يجعل استنتاجاته سوداوية، تفتقر إلى الصواب الفعلى، الذى يستلزم هدوء النفس، ورجاحة العقل، وهناك المتفائل، الذى يرى الأمور بنظرة بيضاء، ويفترض الأفضل دوما، ويؤمن بأن الفوضى هى مرحلة حتمية، تعقب كل ثورة فى التاريخ، وأنها لن تلبث أن تمضى وتنتهى، ويعود كل شىء إلى ما كان عليه. والواقع أن كليهما على خطأ، فالأوّل مشوّش الفكر بالتشاؤم الزائد، والثانى مشوّش الفكر بالتفاؤل الزائد، وحسن تقييم الأمور يحتاج إلى روية، ونظرة تعادلية، لا هى مفرطة فى التفاؤل، ولا غارقة فى التشاؤم، ويحتاج أيضا إلى نظرة شاملة للأمور، ومعرفة جيّدة بخبرات التاريخ، ولعبة التآمر الذكية، التى تمارس بوساطة أجهزة المخابرات، منذ زمن ليس بقليل، ففى الحرب العالمية الأولى، مورست اللعبة بذكاء، حتى يركب البلاشفة ثورة روسيا، التى نجحت فى خلع نظام أسرة رومانوف، وصنعت أوّل برلمان حر، ثم عمل البلاشفة على استمرار احتقان الشارع، واستمرار التظاهرات، حتى اعتلوا الحكم، ثم أسفروا عن أنيابهم، واقتحموا البرلمان، عندما رفض قراراتهم المتعنتة بأغلبية كبيرة، واعتقلوا نوابه، وفرضوا سيطرتهم بالقوة، على نعش الحرية والديمقراطية، اللذين نادت بهما الثورة الروسية، وسحقوا بمنتهى الوحشية، أوّل مظاهرات خرجت ترفض الاعتداء على الحرية والديمقراطية، ووضعوا روسيا تحت قهر وديكتاتورية وطغيان، لم تشهد حتى ربعها، فى عهد الإمبراطور المخلوع. نفس لعبة استمرار الاحتقان والفوضى مورست فى تشيكوسلوفاكيا، أيام هتلر، وانتهت بانهيار الدولة، والاحتلال الألمانى لها، ثم مورست مرة أخرى فى إيران الستينيات، واستمر الاحتقان والرفض الهستيرى، حتى عاد الشاه يحكم ثانية، وحتى مع الاتحاد السوفييتى، مورست اللعبة نفسها، ولكن على نحو أكثر تطوّرا وتأثيرا فى أفغانستان... ولهذا رواية أخرى.