لا بد أن تنتهى ثقافة نشرتها أو عبرت عنها جمهورية الكاكى. الجمهورية قامت بعد حركة الضباط الأحرار فى 1952، وتخيل فيها الجنرالات الصغار أنهم وحدهم يعرفون مصلحة البلد. يتخيلون أو يخططون من أجل الوصول إلى درجة من الإيمان بأنه لا اختيار سوى الجنرال. لماذا؟ لأنه يمتلك القوة والحزم والربط.. مستبد يخيف الشعب لكنه عادل فى توزيع العطايا والمنح واللعنات أيضا. أوهام كثيرة أنتجتها هذه الظاهرة من بينها، لا ينفع معنا سوى «ضابط يشكمنا». أو أننا «شعب لا يمكن أن يحكمه إلا حاكم قوى مركزى يفرض سلطانه على ربوع مصر». هذه كلها ثقافات انقرضت من العالم الحديث، ومن دولة خرجت من مذابح وحروب تسببت فيها هذه النوعية من الحكام (وأسباب أخرى)، لكن هذه الشعوب تعلمت جيدا بعد سنوات من حكم من يتحدثون باسم الدين ويريدون الحكم كأنهم مبعوثون من الله، ومعهم تفويض من السماء، وسنوات أخرى من حكم طاغية يتصور أنه رئيس عموم المدينة الفاضلة، ومبعوثها الوحيد إلى الكون، فيدمر ويكسر العالم من أجل أن يحكم ويفرش إمبراطوريته على كل الأرض. هذه الشعوب دفعت أثمانا باهظة، لكى تدرك أن الدولة الحديثة هى الحل. الدولة التى لا ترفض الدين ولا تمنعه ولا تطارده. الدولة التى تضع قوة الجنرال فى موقعها الصحيح، الحماية وليس الحكم. هؤلاء اكتشفوا أن الحل فى دولة مؤسسات يديرها حاكم قوى، يتغير كل فترة لكى لا يتوحد مع كرسيه ويتصور أنه بطل منقذ. اكتشف العالم بعد ويلات حروب ودماء أن فكرة دولة الخلاص.. أو الدولة التى تقودك إلى الجنة هذه أوهام تنافس أوهام رومانتيكية أخرى مثل «الكل فى واحد»، أو «المستبد العادل»، وكل هذه الأفكار التى تمنح لأساطير جمهورية الكاكى بعدا أخلاقيا. فكرة المستبد العادل قادمة من بعيد، من لحظة تناسخ خاصة مع مفهوم الفرعون (فى مصر الفرعونية) أو الحاكم الإله، مالك كل شىء، مدير الحياة وخالقها، وموزع الفرص ومنفذ العقوبات، الإمبراطوريات المؤمنة أنزلت الحاكم من السماوات، ومنحته صفات ألوهية لكن دون عبادة مباشرة، تقديس لكنه خفى على صاحبه. يبقى إذن الملمح الدينى فى العمق، مقيما فى تركيبة مشروع الدولة، متوازنا بشكل ما مع الطابع الحديث، ومانحا لعلاقة الحاكم مع الشعب ملمح الإله البشرى، لا يناقشه أحد ولا يختلف معه، لكنهم يطالبونه بالعدل، لا يخشى المجتمع من استبداده، وإنما من غياب العدالة. الرئيس هنا حكيم ومانح، ووجوده سر الاستقرار ووحدة البلاد، هذه ملامح دولة مركزية، ورثت إدارة تتناسخ من عصور سحيقة (تصل للفراعنة وتعتمد على تنظيم توزيع مياه النيل)، لكنها تسعى إلى «لا مركزية» منذ أعلن السادات فى أول السبعينيات التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، ومن الحزب الواحد إلى تعدد الأحزاب، ومن دولة الأبطال إلى دولة المؤسسات. التحول لم يتم، واللا مركزية أكلتها المركزية، لتضاف ثنائية جديدة غير محسومة: كيف تقام دولة لا مركزية فى مصر؟ كيف يصبح الرئيس مديرا لا زعيما، موظفا لا بطلا استثنائيا يبحث عن بطولة يحكم باسمها؟ لم يحدث فى مصر انتقال من «الرئيس الاستثنائى» إلى «الرئيس العادى»، لأن الفرعون دائما يبحث عن شرعية أكبر من التى يمنحها المجتمع المدنى.. ولهذا يخضع للابتزاز ويغير فى الدستور ليلائم طموحاته فيضيف السادات مادة «الشريعة الإسلامية» كمصدر وحيد للتشريع ضربا للقواعد اليسارية للدولة، ومغازلة لجمهور الجماعات الإسلامية.. ثم يعدل مبارك المادة 76 ليضمن بها منع الإخوان المسلمين من خوض الانتخابات الرئاسية. لم يسمح للمجتمع بعيدا عن أهواء السلطة بوضع دستور جديد يضع أساسيات دولة مدنية حديثة. كلها رغبات سلطة فى وضع تصور إلهى للحاكم. ويرد عليها المجتمع باللجوء إلى الله باعتباره القوة العليا.. لينصرها على الفرعون الحاكم. وهذه علاقة تفسد الحاكم.. والمجتمع معا. متى نتخلص من آثار جمهورية الكاكى؟