فوجئ جمهور مباراة مصر وإنجلترا بمجموعات شباب يوزعون عليهم صور البرادعي. من هؤلاء؟ ولماذا قرروا فجأة الدخول في خط عملية التغيير في مصر؟ شباب يعيشون في الخارج ويحلمون بمصر مختلفة. «يريدون أن تعود مصر إلي العالم بعدما سقطت في بئر القرون الوسطي..» هذا ما رواه أحد الذين فاجأهم ظهور البرادعي في مدرجات ويمبلي. هؤلاء حاولوا الإجابة عن السؤال الصعب: كيف ستحدث عملية انتقال السلطة؟ الإجابات المطروحة كلها كانت تري ان العملية كلها ستتم في القصر، وأن الصراع سيكون بين أجنحة تنحاز إلي انتقال هادئ يصل فيه شخص يطمئن المؤسسات الصلبة في الدولة.. وبين أجنحة أخري تريد انتقالاً يدخل جماعة رجال الأعمال في تركيبة السلطة. الإجابات كلها دارت حول صراع في القصر برعاية من القوي الدولية. لم يكن المجتمع في الحسبان علي الإطلاق. المجتمع في كل هذه التوقعات لن يخرج عن موقعه القديم: متفرج علي صراع الآلهة خلف شرفات القصر. مجتمع خامل يردد مقولات مثل «أنا واقف في ملك الحكومة» وهذه المقولة أكبر عقبة للتغيير في مصر. مقولة موروثة من زمن كان كل شيء ملكًا لمن يحكم.. وليس للمجتمع. الحاكم في مصر أهم من البلد كله. ولهذا فإن الديمقراطية ليست هي الحل.. كما هو شائع في خطابات الإصلاح والتغيير. الخروج من النفق يحتاج إلي قوة المجتمع أو استعادته للوجود في مقابل السلطة.. وهذا يمكن أن يمنح للديمقراطية معني مختلفًا. الديمقراطية ليست تعويذة سحرية تقال فتنصلح الأحوال. الديمقراطية لا معني لها دون قوة المجتمع. النظام وعلي لسان رئيسه أكد أنه لا نية لتعديل الدستور. وشرائح المجتمع ترفع صوتها للمطالبة بدستور جديد يغير العلاقة بين المجتمع والنظام السياسي. هل من حق الرئيس مصادرة المطالبة بتغيير الدستور وليس تعديله فقط؟ الدستور الحالي يجعل من رئيس الجمهورية فرعونًا كامل الأوصاف ويضع في يده خلطة للحكم تجمع بين السلطة المدنية والدينية. هذه الوضعية ارتبطت بمرحلة تاريخية تعاقد فيها المجتمع مع ضباط يوليو علي علاقة تضمن الحفاظ علي مكاسب الاستقلال الوطني وتغيير النظام الملكي. علاقة انتقالية من المفروض أن يعود بعدها الضباط إلي ثكناتهم لكنهم استمروا وتحولوا إلي ملوك دون ملكية.. وفراعنة دون قيد أو شرط. الزمن تغير وأصبحت هذه العلاقة خارج التاريخ. لم تعد شرعية الثورة صالحة لتبرير قدسية الرئيس لأن مرحلة الثورة انتهت.. وانتهت معها صورة الرئيس الاستثنائي الذي قاد تحرير البلاد من الاستعمار أو شارك في صنع حرب استعادة الأرض المحتلة. لم يحدث في مصر انتقال من «الرئيس الاستثنائي» إلي الرئيس العادي الذي يكتسب شرعيته من صندوق الانتخابات.. كل الانتقالات حتي الآن شكلية.. بالضبط لم تنس البدلة المدنية أن تحتها جنرالاً.. أو أن وجود 61 حزبًا لا يعني التعدد الحزبي.. كل هذه انتقالات شكلية (حدثت ولم تحدث..) أو بمعني ما أن الحياة السياسية في مصر «شبه الحياة السياسية».. والديمقراطية.. «شبه الديمقراطية» والانتخابات «شبه الانتخابات».. والأحزاب «شبه الأحزاب». كل شيء تحت سيطرة النظام أو قابل للاستخدام وهو ما تحاول أجهزة النظام استخدامه لضرب حركة البرادعي. تريد أن تقضي عليها المعارضة باستخدام سيطرتها علي رؤساء الأحزاب أو الدكاكين الحزبية.. أو بتحريك الأحزاب المجهولة لكي تمارس عليه بلطجة سياسية تتوازي طبعًا مع بلطجة المسجلين خطرًا وفلول الجماعات الإسلامية العاملة الآن في خدمة الحكومة وتحت إدارة ضباط أمن الدولة. الدستور يحتاج تغيير كامل لكن ليس قبل فترة انتقالية يسمح فيها بنمو قوة المجتمع المدني بعيدًا عن سطوة «الفرعون كامل الأوصاف». هذه الفترة الانتقالية تؤسس فيها أحزاب ومجموعات ضغط تحمي الطبيعة المدنية للدولة. الفرعون دائمًا يبحث عن شرعية أكبر من التي يمنحها المجتمع المدني.. ولهذا يخضع للابتزاز ويغير في الدستور ليلائم طموحاته فيضيف السادات مادة «الشريعة الإسلامية» كمصدر وحيد للتشريع ضربًا للقواعد اليسارية للدولة ومغازلة لجمهور الجماعات الإسلامية.. ثم يعدل الرئيس مبارك المادة 67 ليضمن بها منع الإخوان المسلمين من خوض الانتخابات الرئاسية. لم يسمح للمجتمع بعيدًا عن أهواء السلطة بوضع دستور جديد يضع أساسيات دولة مدنية حديثة. كلها رغبات سلطة في وضع تصور إلهي للحاكم. ويرد عليها المجتمع باللجوء إلي الله باعتباره القوة العليا.. لينصرها علي الفرعون الحاكم. وهذه علاقة تفسد الحاكم. والمجتمع معًا. - وما يحدث في مصر الآن ليس حلمًا بتغيير الحاكم قط.. لكنه محاولة (مجرد محاولة) لاستعادة المجتمع من الغيبوبة.