أستند بكوعى على المكتب.. أطوَّق وجهى بيديَّا.. أغمض أعينى.. موتوسيكل قادم من مقدمة الشارع يمرق عبر شيش البلكونة المتعشق مزمجرا ومخترقا طبلة أذنى اليمنى.. كمانجة يرتفع صراخها الغاضب القادم من سماعات الكاسيت عاصفا ومخترقا أذنى اليسرى.. فى مقدمة رأسى.. فى تلك المنطقة التى توجد خلف الجبهة – جُوة الدماغ نفسها – والتى أتخيلها دائما على هيئة ميدان شاسع تتفرع منه شوارع فصوص مخى المختلفة.. فى تلك المنطقة أشعر بهما يقفان فى مواجهة بعضهما البعض.. الموتوسيكل والكمانجة.. الموتوسيكل بعد اختراقه لطبلة أذنى اليمنى وبينما هو منطلق بأقصى سرعه فوجئ بالكمانجة تقف أمامه.. مُشهرة قوسها فى وجهه.. فاضطر إلى الفرملة السريعة.. والتوقف.. الكمانجة بدأ صوتها يعلوأكثر..ربما لشعورها بأنها صاحبة البيت.. بينما الموتوسيكل مجرد عابر سبيل مش أكتر.. المهم.. المشهد فى ميدان مخى كان كالتالى.. الموتوسيكل والكمانجة يقفان أمام بعضهما البعض فى وسط الميدان.. محاطان بجموع الذكريات والأحزان والمخاوف والأحلام.. وهؤلاء هم أغلبية جماهير شوارع الدماغ.. بالإضافة إلى مجموعة صغيرة من جموع الأفراح وذكريات البراءة وهؤلاء هم الأقلية.. الجميع كانوا يهتفون للكمانجة فى مقابل قلة قليلة ومندسة وسط الجموع من جماهير الطاقة السلبية كانت تهتف للموتوسيكل بأن يتقدم ويدهس الكمانجة.. وعلى الرغم من تفكير الموتوسيكل بالفعل فى مواصلة التقدم ودهس الكمانجة فى طريقه.. إلا أنه قد تراجع فى اللحظة الأخيرة بعد أن لمح تلك النظرة الثابتة والغاضبة فى أوتار الكمانجة.. وعلى الرغم من رقة قوس الكمانجة.. بالمقارنة بجمودية موتور الموتوسيكل.. إلا أن الموتور شعر بالخوف.. وتوقف! كان الميدان صاخبا تماما.. العمارات الأسمنتية المطلة على الميدان كانت تتمايل وتهتف مع جماهير الطاقة السلبية لصالح الموتوسيكل.. وقد نجم عن تلك الحركة من العمارات.. صراع آخر مع قاطنيها من جمهور الذكريات والأحزان والمخاوف.. هذا الجمهور الذى يرى بالطبع فى انتصار الكمانجة انتصارا شخصيا له.. اندفع الجمهور تجاه العمارات.. صعد سلالمها.. دخل شققها.. احتل بلكوناتها.. هاتفا للكمانجة.. بينما كان أسمنت ومُسلح البلكونات نفسه يهتف للموتوسيكل.. كان الجميع يعلم أن للصراع وقتا محدداسوف ينتهى مع انتهاء زمن هذا الوش من الشريط.. على أساس إنى لازم أفضل على الوضع بتاعى.. اللى هوإنى ساند بكوعى على المكتب مطوقا وجهى بيديا ومغمضا أعينى.. وأى تغيير فى هذا الوضع كفيل بإنهاء الصراع تلقائيا.. بدون إعلان من انتصر ومن انهزم.. لهذا.. كان الجميع يعلم أنى ما ينفعش أقوم أقلب الشريط.. وأنهم ينبغى عليهم إنهاء صراعهم وحسم موقفهم سريعا.. قبل الشريط ما يخلص.. كان موقف الكمانجة صعبا.. خصوصا بعد أن تشجع الموتور لوقوف أسمنت العمارات بجانبه وبدأ فى الزمجرة مجددا.. فجأة.. بدأ صوت الكمانجة فى الانخفاض والتراجع شيئا فشيئا.. تمايلت العمارات وتداخلت الهتافات مع وضد الكمانجة والموتوسيكل أكثر.. ولكن الذى لم يكن أحد يعلمه أن الكمانجة فى انخفاض صوتها هذا كانت تمهد لتصاعد سيمفونى سوف تقف فيه أكثر من 30 كمانجة بجانب بعضهم البعض.. لدرجة سوف تستطيع معها أن تشعر بغضب الأقواس الصاعدة والهابطة على أوتار الكمانجات.. خصوصا وأنها المقطوعة الأخيرة على هذا الوش من الشريط.. يزوم موتور الموتوسيكل أكثر وأكثر.. تصعد وتهبط أقواس 30 كمانجة تعزف على أوتار القلب أكثر فأكثر.. يستدير الموتوسيكل.. ينطلق عائدا من الطريق الذى أتى منه.. يعلو صوت الكمانجات.. يسيطر على الميدان تماما.. تعود العمارات إلى وضعية الثبات.. تتسحب جموع وجماهير الطاقة السلبية فى هدوء إلى الخلف حتى تختفى تدريجيا.. الأقواس تصعد وتهبط على الأوتار بغضب هستيرى فى الجزء الأخير من النوتة التى يعزفونها! الآن.. أستطيع أن أفتح أعينى.. وأتحرك من أمام المكتب.. وأفتح شيش البلكونة المتعشق.. وأمرق خطوتين بالعدد أصبح بعدها واقفا أمام سور البلكونة فى مواجهة السماء المفتوحة.. من أمامى.. فى امتداد الشارع.. كان الموتوسيكل لايعدو مجرد نقطة سوداء مبتعدة.. لحظات واختفت تماما.. من خلفى.. كانت الأقواس قد هبطت للمرة الأخيرة على الأوتار.. لتمنحها قبلة وداع بمناسبة انتهاء المقطوعة وانتهاء هذا الوش من الشريط.. الموتوسيكل اختفى.. والكمانجة صمتت.. الآن تعبث الرياح بأذنى.. ويسيطر صوت الصمت على زمام الأمور! من فوقى.. سرب طيور يعبر بامتداد السماء المفتوحة التى بدأ جو المغربية يخيم عليها ويطفئ أنوارها تدريجيا.. صوت الزقزقة يعبر من فوقى للحظات يختفى بعدها.. من على الشجرة المقابلة يعلو نعيق غراب.. من على شجرة أخرى على نفس الرصيف تبدأ زقزقة عصافير المغرب.. على شجرة وسط الشجرتين.. تقف بومة بيضاء فى هدوء تتابع ما يحدث على الأشجار من حولها.. زقزقة العصافيرونعيق الغراب.. ها هو صراع جديد يبدأ.. وها هى جماهير جهازى العصبى تستعد للإتجاه إلى الميدان الشاسع القابع خلف جبهتى – جوه الدماغ نفسها – والذى تتفرع منه شوارع فصوص مخى المختلفة!