بعد الثورة مرت مؤسسة الشرطة بحالة إنكار يعيشها كل من يرفض الاعتراف بإصابته بمرض عضال يهدد حياته، فيلجأ إلى خداع الذات بدلا من العلاج، ولا أظن أن الله سيمن بالشفاء على ضباطها الذين يحتاجون لإعادة تأهيل لمجرد ترديدهم أمام المرآة لعبارة «أنا مش أداة قمعية أنا لهطة مهلبية»، تماما كما اقتنع الممثل الراحل، إبراهيم سعفان، في أحد أفلامه بأن حل عقدته النفسية يكمن في ترديده لعبارة «أنا مش قصير قزعه أنا طويل وأهبل»، الآن وبعد محاورات مضنية ومجهود هائل اقتنعت الداخلية على مضض بأن لديها مشكلة، لكنها اشترطت أن حلها لا بد أن يأتي بأفكارها وعلى طريقتها، بزعم وجود أغلبية من الشرفاء بين قياداتها، وبذلك أعادونا إلى المربع رقم واحد.. أيها السادة، في مرحلة بالغة الحساسية كتلك التي نعيشها، يجدر بنا أن نعود إلى ثقافتنا الشعبية التي قد تحسم موروثاتها الجدل العقيم، وتوفر الوقت والجهد، فالعبارات التي يصوغها وجدان المجتمع ويتناقلها الناس على لسان أفراده، جيلا بعد جيل، لا تنشأ من فراغ، وفهم معانيها يمثل ضرورة في الأوقات التي يسعى المجتمع فيها نحو الإصلاح الثوري، واحدة من تلك العبارات الموروثة الدالة تنطلق من أفواه الآباء عفويا عندما يقع أبناؤهم في مشكلات تقتضي منهم مرافقتهم إلى أقسام الشرطة، حتى إن كانوا مجنيا عليهم: «حرام عليك يا ابني اللي بتعمله فينا إحنا عمرنا ما دخلنا قسم بوليس»، يقولها الأب أو الأم كأنما الذهاب إلى أقسام الشرطة يحمل في داخله مهانة ومرمطة مؤكدة، أو مخاطرة غير مأمونة العواقب حتى لمن لا تملك السلطات ضدهم أي دليل على فساد أو انحراف! تلك العبارة التي وقرت في ضمائر المصريين تؤكد أن إعادة هيكلة مؤسسة الشرطة صارت ضرورة حتمية يجب أن تقوم بها مصر الثورة من خارج تلك المؤسسة لا من داخلها. بداية لست أدعي امتلاك خبرة بالمجال الأمني، لكنني أعرف يقينا أن الآدباء هم أقدر وأجدر الناس على الإشارة إلى مواطن الخلل الاجتماعي واقتراح حلول غير تقليدية لها. قبل أيام وبعد عودة السياسات الأمنية إلى سابق عهدها بتعامل أفراد الشرطة بقسوة مفرطة في واقعة أهالي الشهداء، استمعت في أحد البرامج الحوارية لكلمات تؤكد استعادتهم لحالة الإنكار السابقة، وحديثهم عن إمكانية الإصلاح الذاتي المشكوك في أمرها، على لسان لواء شرطة بالمعاش، يسخر من قيام غير المؤهلين بالخوض في مشكلات الأجهزة الأمنية، وكأنما اقتراح الحلول لبناء مؤسسة أمنية تحمي الشعب وتحترم حقوق الإنسان يعد أمرا كهنوتيا محرما! ثم تهكم بأن طبيب أسنان ما سمح لنفسه بالتدخل في تلك المحاولات، ففهمت بالطبع أنه كان يقصد الروائي المبدع، علاء الأسواني، قلت لنفسي إن كانت تلك هي قناعات من صاروا خارج المؤسسة لسنوات، ولم يتح لهم ابتعادهم رؤية التشوه الهائل الذي يكمن في دهاليزها المظلمة، فما بالك بمن لا يزالون بالخدمة؟ ألا يؤكد هذا عبثية أي محاولة لإصلاح تلك المؤسسة من داخلها؟ الأمر يا سادة لا يتطلب مهارات ميدانية خاصة لكي يصل ذوو العقول الناضجة والقلوب النابضة إلى العوامل التي تسببت في تجذر مشكلة توحش المؤسسة الأمنية، وتحولها على مر العقود إلى داء مزمن لا تجدى معه المسكنات، بل إلى مرض مستعص يستلزم التخلص منه جراحة، لا بد أن تعقبها فترة نقاهة قد تمتد إلى سنوات، تلك العوامل ينبغي وضعها في الاعتبار قبل التفكير في أي حل للمشكلة، وأولها وأهمها، في اعتقادي، هو الفلسفة القمعية التي يقوم عليها كيان المؤسسات الشرطية في الدول البوليسية والذي يعيق فكرة إصلاحها من الداخل، فتلك المؤسسات تنشأ على عقيدة التزامها بالعمل بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لحماية وبقاء الأنظمة الشمولية في الحكم مهما بلغت درجة انتهاكها لآدمية المواطن، وذلك بالطبع في مقابل حصول أفرادها على امتيازات اجتماعية لا يحلم بها غيرهم، ثاني تلك العوامل هو تردي الوطن إلى حالة رهيبة من الفقر المدقع الذي يصنع مجتمعا طبقيا لا إنسانيا يضع أصحاب المستويات الاقتصادية الرقيقة بين فكي كماشة هائلة، أحدهما شيوع ثقافة «أولاد الناس» التي تقر في طياتها بوجود آخرين من «أولاد الكلب» الذين تنتهك آدميتهم على يد الطبقات القادرة، بدءا من خضوعهم للقهر الذي يمنع ارتقاء أبنائهم اجتماعيا حتى وإن كانوا يملكون المؤهلات التي تبيح لهم ذلك الحق، راجع عديدا من حالات انتحار الشباب يأسا لعدم حصولهم على وظائف يستحقونها، وأشهرها حالة الشاب المتفوق رقيق الحال الذي شنق نفسه بعد أن رفضته وزارة الخارجية، وانتهاء بالقهر الذي يمارس ضدهم، ضد الفقراء، عند أي خلاف يقع بينهم وبين ذوي النفوذ. ناهيك بأن ثقافة المجتمع الفاسدة تجعل الغالبية من أبناء الشرائح القادرة يشعرون بأن وجاهتهم الاجتماعية قد تهتز إن تعاملوا بآدمية مع من هم أفقر منهم! فما بالك بسلوك البعض من ضباط الشرطة الذين تدربهم المؤسسة للقيام بالمهام القمعية؟ تلك هي بعض العوامل التي كان لا بد أن نستعرضها قبل أن نتطرق في مقال قادم، بإذن الله، إلى الحلول التي سبقتنا إليها ثورات أخرى، لم تعتمد في إصلاح مؤسساتها الشرطية على ترديد ضباطها لأنفسهم، ثلاث مرات في اليوم قبل القمع وبعده، عبارة «أنا مش أداة قمعية أنا لهطة مهلبية».