يقول الشاعر قيس بن الملوح، الشهير بمجنون ليلى، فى قصيدته المعروفة باسم المؤنسة: «تذكرت ليلى والسنين الخواليا/ وأيام لا نخشى على اللهو ناهيا» حتى يصل إلى البيت القائل: «فيا رب سوّ الحب بينى وبينها/ يكون كفافا لا علىّ ولا ليا». تتجلى عبقرية هذا البيت فى الحقيقة التى اكتشفها قيس بفطرته السليمة، التى لم تفسدها قراءة الصحف ولا مشاهدة التليفزيون. لقد توصل العاشق ودليله الألم والعذاب إلى أن أساس السعادة فى الحب هو التكافؤ، أى أن يكون حبها له مكافئا لحبه، وإلا فالتعاسة ستكون مصير الطرف الذى يزيد حبه على الطرف الآخر. وصل قيس إلى هذا من غير أن يستمع لنصيحة أستاذ فى الطب النفسى، وعرف أن الحب من طرف واحد يدفع إلى الجنون، لهذا لم يطلب من الله أن تحبه ليلى أضعاف حبه لها، لكن طلب أن تحبه بشكل مساو ومكافئ لما لديه من مشاعر.. لا أكثر. وفى الحقيقة أن قيسا كان أكثر شجاعة وصدقا من كثير من الأدباء والشعراء فى عصرنا الحديث، الذين صادفوا الفشل فى الحب، ولكن بدلا من أن يقبلوا بحقيقة أن المحبوبة لا تبادلهم مشاعرهم، وأن حبهم من طرف واحد، اخترعوا حكاية كاذبة، مؤداها أن المرأة تشكل لغزا أبديا يصعب فهمه، وأنها عبارة عن مخلوق غامض فشل الرجل فى سبر أغواره واكتشاف حقيقته! وهى حيلة ماكرة تلقفها كل العشاق الخائبين الذين أحبوا بلا أمل، وصار كل منهم يردد الأسطوانة المشروخة ذاتها عن المرأة اللغز، بديلا عن الاعتراف بأن سبب إعراضها عنه وصدها له هو أنها ببساطة لا تحبه! ولا ننكر هنا أن المرأة بطبعها المراوغ وهوايتها جمع المحبين قد ترسل بين الحين والآخر إشارات ملتبسة، تفتح باب الأمل وتغلقه. لكن هذا لا يحدث إلا مع رجل لا تحبه ولا يعنى لها شيئا. أما الرجال الذين يحظون بعلاقات حب سليمة ومتكافئة تبدى المحبوبة فيها الود والوصال لحبيبها، لم نسمع منهم أبدا عن حكاية المرأة اللغز، أو المرأة التى لا تصون العهد ولا تحفظ الود. و المؤسف أن العشاق الذين قاسوا آلام الحب المرفوض لم يكتفوا- خصوصا الشعراء منهم- بالحديث عن الغموض والتقلب، وإنما أضافوا إليه الاتهام بالخيانة والكذب. ومن أشهر آيات هذا الاتهام قصيدة «لا تكذبى» للشاعر الكبير كامل الشناوى، الذى قيل إنه هام حبا بالمطربة نجاة الصغيرة، رغم الفارق الكبير بينهما فى العمر وفى الحجم! وفى القصيدة يبدى صدمته بضبطها مع رجل آخر، وذلك دون أن يعترف بأنها لم تبادله مشاعره واعتبرته فقط بمثابة الأب والأستاذ، ثم لا يتردد فى أن يكيل لها الاتهامات، كما لو كانت قد عاهدته على الحب ثم نقضت العهد! وقد أخبرنى الكاتب الكبير يوسف إدريس، فى لقائى الوحيد به بأنه كان ذلك الرجل الذى حطم فؤاد كامل الشناوى. ولا يشترط أن يكون من يقاسى عذاب الحب من طرف واحد رجلا يكبر المحبوب فى السن، أو ينتمى لجيل آخر، وإنما قد يكون تلميذا فى الصف نفسه، أو زميلا فى الوظيفة نفسها، ورغم ذلك لا تجد فيه البنت فتى الأحلام الذى تشعل نظرة منه فتيل قلبها. ومع ذلك فإن من كلاسيكيات النُكت المعبرة عن هذه الحالة نكتة بابا نويل، الذى كان يمر بالشارع عندما لمح فتاة حسناء تقف بالشباك، فبهره حسنها وجمالها وتسمّر فى مكانه عاجزا عن النطق، وعندما رأته الفتاة فإنها هتفت متهللة: أوه بابا نويل، فما كان منه إلا أن بادرها مسرعا: بلاش بابا دى..قولى لى يا نويل!