تقدر تعمل من البيض عجة. لكن لا انت، ولا أى حد يقدر يرجع العجة بيض. أنا لا أملّ من إشهار هذا المثل الإسبانى الذى أحبه كثيرا فى وجه كل من يتوهمون أن من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خصوصا نفايات النظام البائد الذى كانت عجته -بالمناسبة- كلها عك فى عك. المشكلة ليست فى شلة (آسفين يا ريس) التى لا يتجاوز عدد أفرادها الأربعين أو الخمسين من الحالات التى تستوجب الوضع تحت الملاحظة الإكلينيكية العاجلة، والتى لا ينكر أقران الرئيس المخلوع فى الخليج أنهم يمولونها بسخاء. كذلك فإن المشكلة ليست فى بتوع هليوبوليس الذين يتعاطون مع العمل السياسى كما لو أنه بارتى أو بلمسكيه. أين تكمن المشكلة إذن؟ فلنؤجل -يا أستاذ قارئ- الإجابة دقيقتين على الأكثر. الديكتاتور المجبر على التنحى لن يعود مرة أخرى مهما حدث، ولا سيعود نجلاه اللذان أبديا -على الدوام- شبقا غير آدمى إزاء السلطة والمال، بصرف النظر عن المقابل المتمثل فى السقوط الأخلاقى أو سلسلة التنازلات المخزية على حساب الوطن. لن يرجع إلى حيز الوجود النظام الذى ارتبط طوال الوقت بأكياس الدم الملوث والفساد والقمع والمبيدت المسرطنة، وتدحرج نصف الشعب المصرى إلى ما تحت خط الفقر، علاوة على تزوير الانتخابات والكذب المفضوح والتعذيب حتى الموت فى سلخانات لاظوغلى، ولا سترجع أبدا العصابة الشرهة التى توحشت فى حظائر المخلوع الخصوصية، لا شىء من كل تلك الظواهر الموبوءة التى ألقت بها ثورة 25 يناير إلى مزبلة التاريخ من الممكن أن يعود. غاية ما يستطيعه هؤلاء هو ارتكاب المزيد من الجرائم التى تربوا عليها. هذا هو كل ما لديهم. ليعلم الجميع أننا -لو صدر قانون العزل السياسى- سنشعل النار فى الأخضر واليابس، وأن لدينا من الرجال والسلاح ما يكفى لقطع الطرق والسكك الحديدية، فضلا عن إغلاق الصعيد كمنطقة مستقلة عن بقية مصر. تلك هى بعض التصريحات الهستيرية التى جاءت على لسان نفايات الحزب الوطنى المنحل. حدث هذا ضمن المؤتمر الفضائحى الذى انعقد منذ أيام فى نجع حمادى. الأمر كله بدا نوعا من الطقوس البدائية على مذبح الآلهة العطشى إلى الدم. بدا كالرقص بين أنقاض المعبد الملعون. هنا بالتحديد -يا أستاذ قارئ- يكمن جانب من المشكلة، الحزب الوطنى المنحل أبدا ما كان تنظيما أيديولوجيا يرتكز على مجموعة من المبادئ أو الخطط السياسية. كان منذ نشأته طبقة تتشكل خارج إطار النمو الطبيعى على سطح المجتمع، بعيدا عن معاناة الأغلبية الساحقة من المصريين هناك فى القاع. لا جامع بينهم سوى شبكة المصالح المعقدة التى أخذت تتكون تحت الأرض كجحور الأفاعى. وعلى الرغم من الجوع والعطش والمذلة واليأس ومرارة الحلق وعدم الحرص على الحياة الذى استبد بالناس، فلقد تمادوا -كالضباع- فى نهش جراح البلد. لا يوجد فى كل هذا ما يبعث فى الواقع على الاستغراب. هل سمع أحد من قبل أن الجراد يفكر فى الدمار الذى يسببه لملايين البشر؟ هل سمع أحد من قبل أن ضمير دودة البلهارسيا يؤنبها على الأوجاع التى تبتلى بها أجساد الفلاحين؟ لا يوجد فى كل هذا ما يبعث فى الواقع على الاستغراب. البعض أيضا تحت تأثير غريزة التسلط الجنونى يتوحشون، ولا يبدو أن الارتداد إلى الإنسانية فى أغلب الحالات ممكن. كلهم يدّعون الآن أنهم انضموا إلى الحزب الوطنى ليحاولوا إصلاحه من الداخل. كلهم بلا استثناء. لا يستوجب الإصلاح إلا ما هو فاسد. الجميع كانوا على علم -إذن- بأن الحزب المنحل يغرق إلى ما فوق الجباه فى مستنقع الفساد. ومع هذا، فلقد ظل كل من ينخرط فى كهنوت هذا المعبد الملعون يصارع -بالكيعان والأسنان- من أجل التقدم على حساب الآخرين إلى الصفوف الأمامية. كان الصراع من أجل موطئ قدم فى لجنة السياسات، أو عند حذاء الوريث المرتقب حربا لا تحكمها سوى شريعة الغاب، بما فى ذلك اغتيال السمعة أو تلفيق القضايا أو مجرد الكشف عنها دون سابق إنذار، بالإضافة إلى إثارة الفضائح أو الضرب تحت الحزام أو التسبب فى حوادث القضاء والقدر أو الخوض فى الأعراض أو التحالف ضد المنافسين المغضوب عليهم مع مباحث أمن الدولة. لكنهم يصبحون يدا واحدة فى مواجهة من لا ينتمون إلى العصابة، ولا تبلغ شراستهم القمة إلا عندما يتعلق الأمر بالمواطن الغلبان. هل أنفقوا الثلاثين عاما كلها يحاولون إصلاح الحزب المنحل من الداخل؟ لماذا لم يعلنوا على الملأ بعد عامين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أن مهمتهم قد فشلت؟ وأنهم يعاهدون الشعب المصرى على أن لا يخدعوه مرة أخرى من الآن فصاعدا؟ ألم يتطرق اليأس من إمكانية الإصلاح إلى نفوسهم بعد العشرين عاما الأولى؟ الذين أقسموا أنهم سيشعلون النار فى الأخضر واليابس، متفاخرين بأن لديهم من الرجال والسلاح ما يكفى لقطع الطرق والسكك الحديدية، فضلا عن إغلاق الصعيد كمنطقة مستقلة عن بقية مصر، كانوا جزءا لا يتجزء من الفساد الذى يزعمون الآن أنهم حاولوا -على مدى ثلاثين عاما- أن يصلحوه. أحد الجوانب الأخرى من المشكلة هو أن المجلس العسكرى لا يأخذ فى اعتباره إلا مواقف من يتوعدون باستخدام القوة، أو يهددون باللجوء إلى العنف، كنفايات الحزب المنحل من كهنة المعبد الملعون، أو المرشد العام الذى هو فى الحقيقة أمين لجنة السياسات الإخوانية، عندما أعلن أن تحت يده آلافا من الاستشهاديين الذين ينتظرون التعليمات لينزلوا إلى الشوارع. وعلى هذا النحو، يكون المجلس العسكرى هو من يدفع بالمصريين إلى التشكك فى جدوى سلمية الثورة هنا -بالذات- يكمن الجانب الأخطر من المشكلة.