عندما ظهرت «الإنترنت» لأول مرة على نطاق واسع فى منتصف التسعينيات كان هناك نقاش حول مدى تأثيرها ومصداقيتها وانتشارها، واليوم نشهد نقاشا مشابها حول أحد فروعها، وهو شبكات التواصل الاجتماعية. صدر فى نهاية عام 2008 كتاب «دولة الفيسبوك» لمؤلفه محمد البسيونى الذى رصد وقتها حالة من التفتت والاستقطاب والسخرية بين رواد ومجموعات «الفيسبوك» تجاه القضايا السياسية والاجتماعية المختلفة، وانتهى الكتاب إلى صخب الواقع الافتراضى وتوفير الساحة لجدل مزدحم بين المصريين، وتغير هذا الواقع الافتراضى باستمرار وضرورة إعداده عدة كتب لاحقة تتابعه. لا يمكن الإجابة عن تساؤل عنوان المقال بنعم أو لا، السعى لإجابات قاطعة لا يناسب الواقع الأكثر تعقيدا، وإن سأل شخص عن دور «الفيسبوك» فى التحضير للاحتجاجات السياسية سوف يتراوح الرد حسب الأهواء: يريدها الغرب ثورة فيسبوكية لتكون له أياد بيضاء على ثورتنا، ويريدها المعارضون المخضرمون ثورة واقعية بحتة لا ظهير إلكترونيا لها لأنهم بدؤوا من دونه، وانضموا إلى المسيرة الافتراضية مؤخرا، أو لأنهم لم يستخدموه، وبالعكس عندما يريد أن يشكك أحد فى الثورة وقدرتها على التغيير، يفترض أنها مجرد ثورة افتراضية لم ينزل خلال ذروتها الملايين، بل وخلال انقطاع الاتصالات، والإجابة الموضوعية عن دور المواقع الاجتماعية باختصار أنها مزيج من الاثنين. توجد انتقادات كثيرة لفرضية «الفيسبوك»، صحيح أنه وفقا لدراسات الحركات الاجتماعية يعد مستوى التزام أعضاء الحركات الإلكترونية ضئيلا، فحجم المشاركة الإلكترونية لا يعبر عن المشاركة الفعلية، كما لأن التليفزيون هو الوسيلة الأكثر انتشارا وتأثيرا، ويتراجع تغلغل «الفيسبوك» فى مجتمع يعانى الفقر والأمية، وأن «الفيسبوك» بالتالى غير معبر عن مصر الحقيقية. كلها حقائق صحيحة، لكن النشر والعلانية فى حد ذاته سلاح مضاد لتزييف الوعى. من جانب آخر لا يمكن إنكار حقيقة أن الحكومات أيضا أدركت أهميتها، وتتعلم كيفية استخدام هذه الوسيلة الجديدة، كما أن «الفيسبوك» يستخدم لتعزيز ما هو قائم بالفعل، ونادرا ما يكون شيئا من العدم. من جانب آخر هناك ثلاث حقائق تعزز أهمية شبكات التواصل الاجتماعى، أولا: تتمثل قيمة «المعارضة الفيسبوكية» فى كونها تعبيرا عن تيار نقدى تلقائى غير مؤسسى وغير مسيّس، ومصدرا مغايرا للمعلومات، ولا تخفى روح الفكاهة غير المنظمة من نشر صور تعبيرية ونكات تنتشر فى مصر دون أن يعرف منشئوها، ثانيا: يتزايد هامش تأثير المعارضة الإلكترونية باطراد، إما بالنقل إما عن أشخاص وإما عن صفحات معينة لما لها من موقف سياسى، بعض الأمثلة لمجموعات إلكترونية خالصة تحولت إلى كيانات فاعلة «شبكة رصد» و«إحنا آسفين يا ريس»، ومجموعات تنموية مثل حملة «بص فى ورقتك»، ثالثا: تتمثل قيمة مواقع التواصل الاجتماعى فى تشبيكها للقوى والحركات السياسية فى الواقع الحقيقى، باعتبارها امتدادا له لا انفصالا عنه. ويوجد مثالان فى الحياة العامة مؤخرا يؤكدان تأثير الإنترنت، منهما الحملة شديدة الشراسة على «تويتر» و«الفيسبوك»، عندما تردد منع البرادعى من اللقاء مع عمرو خالد على التليفزيون المصرى، ثم التراجع عن عدم البث، والاكتفاء بتقليص زمن اللقاء، وأخيرا سخرية النشطاء الفيسبوكيين من المنافقين نافخى بلالين الاختبار، والتى أدت إلى تناول المشير موضوع البدلة المدنية، يعنى بتجريد أكبر، القصتان تدل ان على استفزاز الفضاء الإلكترونى لاستجابة حقيقية فى الواقع السياسى. وحتى لمن لا يملك التكنولوجيا يمكن افتراض تأثير الإنترنت على خطوتين، وفقا لنموذج تدفق المعلومات على مستويين، وهى فرضية كلاسيكية يدرسها طلاب الإعلام، تقوم على وجود قادة رأى أو شخصيات من ذوى نفوذ وتأثير فى المجتمع ينقلون المعلومات والرؤى إلى غيرهم، ورغم قدم هذه الفرضية التى تعود إلى الأربعينيات والخمسينيات نجد أنها صالحة لشرح دور «الفيسبوك» فى النشر، فهى تتفادى النقد الأساسى بوجود فجوة اتصالية بين من يملك ومن لا يملك التكنولوجيا، فقادة الرأى فى مجتمعاتهم يحصلون على النفوذ من خصائص تميزهم ومصادر معلومات إضافية، مثل مواقع الاتصال الاجتماعى، ثم ينشرون المعلومات «هذا ليس ضامنا لإحداث تأثير فى جميع الأحوال» كما قد تنقل عنهم وسائل الإعلام التقليدية، فتوفر العلانية للواقع الافتراضى. وفقا لمنحنى انتشار الأفكار المستحدثة عبر الشرائح الاجتماعية من أعلى إلى أسفل، تنمو بالتوازى الصلات الإلكترونية، وتكوّن جدائل اتصالية أكثر كثافة، ومن أبرز الأدلة: حرص أكبر من قوى التيارات المختلفة على الوجود فى الفضاء الإلكترونى، وتكوين حسابات، وهى قفزة موثقة بالأرقام، وانضمام فئات عمرية وشرائح اجتماعية واقتصادية أكثر تباينا، وانتشار أكبر من المتصور فى الريف والصعيد والأماكن الشعبية، حتى لو بأجهزة قديمة ووصلات إنترنت مشتركة، وحتى لا ننسى فشبكة «أوربت» النخبوية تشاهدها فئات اجتماعية تستطيع أن تدفع 20 أو 30 جنيها ثمن وصلة الدش. المحصلة النهائية أنه كلما تزداد إتاحة «الفيسبوك»، يبشر ذلك بتقليل الفجوة بين نوعى الرأى العام على مدى السنوات القادمة، وبالتالى فتأثير الفيسبوك ليس أكذوبة، لكنه أيضا ليس أسطورة.. هو ليس المحرك الرئيسى للرأى العام فى مصر، إنما هو أحد روافده أو انعكاساته، هو وسيلة مثله مثل غيره. فهل يعقل أن لا يستخدم الفاعلون فى العمل العام التليفون المحمول؟ هو مثله ولكنه فقط أحدث وما زال أقل انتشارا!