هذه القصة مهداة إلى كل من يسأل همّ عايزين إيه؟ وهذه القصة حقيقية، لكننى اضطررت إلى تغيير الأسماء والوظائف بناء على رغبة أصحابها. بدأت أحداث القصة منذ ثمانية أعوام، حين قررت الدكتورة هالة أن تلحق البنت الصغيرة القادمة من قرية صغيرة للتدريب على العمل فى منزل أختها بالمدرسة الابتدائية، كان قرارا غريبا على عائلة اعتادت أن تستقدم بنات من نفس قريتهم للعمل، البنات غالبا من أسرة واحدة اعتادت أن ترسل بناتها للعمل فى مصر فى بيت الأم الكبيرة أم الدكتورة هالة وأختها، يأتين صغارا ويكبرن حتى يأتى العريس المناسب فتتولى العائلة تجهيزهن للزواج ويذهبن إلى بيت الزوجية وتظل العلاقة قائمة كأنهن بنات العائلة، أغلب البنات تعلمن القراءة والكتابة فى البيت الكبير، واكتفين بهذا القدر من التعليم حتى جاءت بهية، كانت جميلة وذكية ومختلفة قليلا عن أخواتها وخالاتها اللاتى سبقنها، كانت بهية القادمة رقم أربعة، وكانت أصغر كثيرا من أن تستطيع العمل فى البيت، وبالصدفة البحتة كان البيت به عدد كاف من الأيدى العاملة، لكنها جاءت بسبب إلحاح أمها وأبيها لمساعدة أسرتها الصغيرة على تحمل تكاليف الحياة. واستقرت فى منزل الحاجة مها أخت الدكتورة هالة التى تصورت أن أفضل ما يمكن أن تقدمه للإنسانية هو مساعدة بهية على أن تتلقى تعليما عاديا مثلها مثل أى بنت فى سنها. دخلت بهية المدرسة متأخرة عامين كاملين عن زملائها، وكانت الدكتورة هالة مهمومة بهاجس أن الطفلة قد تشعر بالنقص لو علم زملاؤها بوضعها العائلى، أو تشعر بالخجل، لأنها أكبر وبالتالى أطول من كل الفصل. وهو الهاجس الذى أثبتت الأيام عدم صحته. أما سؤال باقى العائلة الذى ظل يطاردها لفترة فكان: ما فائدة التعليم فى مثل ظروف بهية؟ وكانوا يعتقدون أن التعليم لا يغير الكثير. وكانت هالة لا تعطى اهتماما لهم، معتقدة أن نظرة طبقية مرفوضة تتحكم فى أفكارهم. الغريب أن موقف أفراد العائلة تغير بعد أن انتظمت بهية فى الدراسة، وخصوصا بنات العائلة الشابات اللاتى كن يتسابقن فى مساعدتها أيام الامتحانات ويمنحنها الهدايا كلما جاءت الشهادة تحمل الأرقام النهائية. تفوقت بهية فى الدراسة حتى إنها دخلت فصل المتفوقات فى الإعدادى، وتفوقت أيضا فى النشاط المدرسى فكانت تعزف موسيقى، وتذهب الدكتورة هالة لحضور الحفلات المدرسية وتلتقط الصور لبهية بمنتهى الفخر وهى تحدث نفسها أنها نجحت بالفعل فى تقديم خدمة كبيرة للإنسانية. على عكس كل التلاميذ فى المدارس الحكومية لم تحتج بهية إلا لدرس خصوصى فى الرياضيات فى الصف الأول والثانى الإعدادى وحصص مراجعة بسيطة فى اللغة الإنجليزية. والمدهش أنها فى نفس الوقت تعلمت الطهى وأصبحت قادرة على أن تدخل المطبخ تحت إشراف الحاجة مها. بعد أن أنهت بهية امتحانات الصف الثانى الإعدادى هذا العام ذهبت إلى قريتها فى إجازة صيفية مثل كل الأعوام السابقة، ومن هناك اتصلت بالحاجة مها قالت لها إنها لن تعود للقاهرة، وإنها ستبقى مع والدتها (التى أصبحت مريضة) لتساعدها فى أعمال البيت والزراعة. وإنها سترسل والدها ليسحب أوراقها من مدرستها ويحولها إلى مدرسة فى القرية. ثم اتصلت مرة أخرى وقالت إنها لن تسحب أوراقها، لأن أخاها الكبير رفض أن تذهب إلى المدرسة وتخرج لتمشى فى الطرقات بعد أن وصلت إلى هذه السن. بهية الآن عمرها 15 سنة. قالت فى مكالمتها الأخيرة إن أحد أقاربها تقدم لخطبتها وإنها وافقت ووافق أهلها!!