لم يفاجئنى ذلك الهجوم العنيف، وحملات الشتم والبذاءة التى شنها على العبد لله المتنطعون على دين الإسلام والمتسربلون بعباءته. هؤلاء الذين نراهم الآن يقتحمون ساحة السياسة بغشم وخشونة، ويحاولون باستماتة السطو على ثمار ثورة عظيمة، أطلقتها أكثر شرائح مجتمعنا تعليما وحداثة وانفتاحا، ورغبة فى النهوض من كبوة القهر والاستغلال والتخلف، إلى رحابة الحرية والعدالة والتقدم، بينما الساعون لسرقتها هم الأكثر تخلفا وجهلا والأشد فظاظة فى العداء لكل الأهداف والمبادئ والقيم النبيلة التى ثار المصريون لأجلها! لم يدهشنى أن الظلاميين ملؤوا الفضاء الإلكترونى الأسبوع الماضى بفيض من سخفهم وسخائمهم، لأننى شبهت (فى مقالين) لعبهم الخطر اللئيم على المشاعر الدينية لبسطاء الناس (انظر جمعة الجلاليب) بما فعله النازيون، عندما لعبوا وهيجوا المشاعر الوطنية والقومية الخام والبدائية للجمهور الألمانى، ثم أطلقوا وقادوا عاصفة دموية مروعة، كان حصادها إزهاق أرواح عشرات ملايين البشر، فضلا عن خراب ودمار هائلين، لم يستثنيا ألمانيا نفسها، التى هزمت وسحقت واحتلت أراضيها، وانشطرت إلى شطرين لمدة نصف قرن تقريبا (من 1945 حتى 1990). أكرر أننى لم أفاجأ ولا اندهشت من بذاءة وسوء تربية وأخلاق أهل الظلام هؤلاء، لكننى بصراحة استغربت جدا أنهم عرفوا يعنى «إيه نازية» أصلا، ورجحت أن أحدا من أولاد الحلال ربما دلهم على معناها، إلا أن الجهل المعشش فى عقولهم جعلهم يفهمون أن هذه النازية هى نوع من الشتيمة، لهذا ردوا ردحا وسفالة خالصتين. ومع ذلك ما فات كله ليس موضوع هذه الزاوية اليوم، وإنما الموضوع دليل جديد اكتشفته يعيد تأكيد حقيقة أن الهوس والتعصب كالكفر ملة واحدة، وطريقة فى التفكير (أو بالأحرى اللا تفكير) واحدة، وسلوك وجنون واحد، بغض النظر عن طبيعة الكهف العقلى المظلم الذى يلوذ به المهووسون، أو نوع الرداء الذى يخرجون به على الناس، إن كان رداء دين أو قومية ووطنية، أو أى رداء آخر. فأما هذا الدليل الجديد، فقد عثرت عليه وأنا أتابع ما تناقلته وسائل الإعلام العالمية من أقوال الإرهابى النرويجى المهووس أندرس بريفيك، أمام فريق التحقيق الذى يتولى مساءلته عن المجزرة البشعة، التى نفذها يوم الثانى والعشرين من الشهر الماضى فى عمليتين متزامنتين، أولاهما تفجير سيارة مفخخة فى قلب العاصمة أوسلو، ما أدى إلى سقوط 8 قتلى أبرياء، وقام فى العملية الثانية بإطلاق الرصاص عشوائيا بنفسه على شباب كانوا يشاركون فى معسكر لحزب العمال الحاكم فقتل 69 شابا منهم، بذريعة أن هذا الحزب يتبنى «موقفا متساهلا» من هجرة المسلمين إلى بلاده وباقى بلدان أوروبا (من بين الضحايا شابان مسلمان). لقد اعترف الإرهابى بريفيك بجريمته النكراء، لكنه لم يبد أى ندم، بل وصف فعلته المشينة بأنها «قد تكون قاسية بعض الشىء إلا أنها ضرورية (وهى) واجب قومى ودينى».. هل تلاحظ التمسح بالدين واستخدامه لتبرير أحط الجرائم؟! وكشف بريفيك أمام المحققين أن راعيه وملهمه، فكريا وعقائديا، هو قس إنجليزى متطرف وعنصرى يدعى بول رى، سبق أن طردته السلطات النرويجية من أراضيها بسبب نشاطه التحريضى ضد الأجانب عموما والمسلمين تحديدا. غير أن هذا القس الذى أسس جماعة دينية متطرفة سماها «حركة فرسان المعبد» مستوحيا اسم حركة مشابهة نشطت أيام الحملات الصليبية على المشرق العربى، نأى بنفسه عن جريمة تابعه النرويجى، وقال فى تصريحات لصحيفة «التايمز البريطانية»: «ربما كنت أنا فعلا مصدر إلهام لبريفيك، لكننى لا أقر فعلته الشيطانية التى قام بها لتحقيق المثاليات التى يؤمن بها»! هذه اللغة المراوغة الملتبسة دفعت محرر التايمز إلى وصف القس راى بأنه «منافق»، فهو يعترف ويتباهى بأن أفكاره المسمومة هى المعين العقائدى الذى غرف منه بريفيك، وفى الوقت نفسه يتبرأ من النتيجة الحتمية لهذا النوع من الأفكار والمفاهيم المنحرفة، خوفا من تحمل المسؤولية القانونية، وليس لأن لديه ذرة من ضمير أو أخلاق.