من أكثر ما آلم شعبنا وأهان كرامته -في السنوات الأخيرة- تسخير أجهزة الدولة كلها من أجل تمرير مشروع توريث جمال مبارك للحكم بعد أبيه! إذ شعر الناس بأنهم يعيشون في عزبة يملكها الأب، ويستعد لتوريثها إلى ابنه من بعده، وليست بلدا كبيرا عريقا صاحب حضارة رائعة عمرها سبعة آلاف سنة! ولأن نظام حكم عائلة مبارك كان يعتمد الفساد منهجا لحكمه، لذلك فقد سعى لإفساد الشعب كله، ومن ثم تفشى الفساد في كل أركان الدولة، وكذلك كانت الحال بالنسبة لمبدأ التوريث، فهو المذهب السائد في كل المؤسسات والمهن! إذ إن الناس على دين ملوكهم، فإذا كنت سيادتك مثلا ضابط جيش أو شرطة، فمن اليسير أن يصبح ابنك ضابطا مثلك، وإذا كنت سيادتك قاضيا، أو طبيبا، أو ممثلا، أو إعلاميا، أو أي مهنة أخرى، فيمكن لابنك المجتهد، أو الفاشل، المحب لمهنتك، أو الكاره لها، أن يمتهن نفس مهنتك بمنتهى السهولة! فالمجتمع كله يورث المهن والوظائف من جيل الآباء إلى جيل الأبناء! إذن، أين يذهب أصحاب المواهب؟! وماذا يصنع شاب أو شابة يرغب في العمل في مجال غير مجال أبيه أو أمه؟! وكيف نحصر شبابنا في مهن لا يرغبونها؟! وكيف يبدعون في مجالات عمل لا يعشقونها؟! وكيف ينهض مجتمع مثل هذا؟! يجب أن نعترف أننا مجتمع يحبط المواهب، ويحطم الكفاءات، إذ إن الشاب المصري لا يختار أي اختيارات حقيقية طوال حياته التعليمية، وإنما الأمر كله يتوقف على ما يحصل عليه من درجات من جهة، وعلى رغبات أهله من جهة أخرى! أما رأيه هو فأمر لا يهم أحدا، ولذلك معظم شبابنا وفتياتنا يتعلمون تعليما بعيدا عن اهتماماتهم، ثم يعملون في مهن ووظائف مختلفة تماما عن رغباتهم وأمنياتهم! ولأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، لذلك فلننظر إلى المجتمع الأمريكي على سبيل المثال، فهو مجتمع قائم على فكرة «الحلم الأمريكي»، فما هذا الحلم؟ إنه ببساطة فكرة التفوق أو النجاح الشخصي، فأنت إذا ما كنت جادا، أو موهوبا، أو قادرا على العمل الشاق، فلا بد أنك ستجد فرصتك في النجاح والتوفيق، ولذلك يفتح المجتمع الأمريكي كل عام أبوابه لآلاف المهاجرين، الراغبين في العمل على تحقيق الحلم الأمريكي، فهذه الفرص المتاحة للشباب من الجنسين هي التي تخلق النجاح الفردي، والنهوض المجتمعي. والآن بعد ثورتنا النبيلة، كيف لنا أن نعالج هذه المشكلة المعقدة؟ الإجابة طويلة لكن يمكن تلخيصها في ضرورة تغيير ثقافة المجتمع كله، بحيث نرسي قيم العدل والمساواة، واحترام المواهب لا توريث الوظائف، وعلينا أن نغير نظامنا التعليمي، لنصبح مثل دول العالم المتقدم، التي تتيح لشبابها نوع الدراسة التي يرغب فيها، كذلك لا بد أن ندفع بشبابنا إلى العمل في سن صغيرة، حتى يتعلم الاعتماد على ذاته، واكتشاف مواهبه وتنميتها.