انتظرنا طويلا أن تُفتح البوابة الزرقاء، كان يقف بجوارنا، على الرصيف، أعداد قليلة من الأهالي الذين جاؤوا لزيارة ذويهم داخل السجن، أو ربما لتوصيل طلبات لهم، كانت هناك مداولات من مرافقينا مع ضابط صغير السن، أنيق، برتبة ملازم، يبدو أنه يجهز ترتيبات زيارتنا، بعد نصف ساعة تقريبا، فُتح الباب الكبير أخيرا، في تلك اللحظة فقط لفت نظري اليافطة الكبيرة المعلقة فوق البوابة "السجن المحلي بوجدة". كان "الشاويش" الذي فتح الباب له شارب أبيض مفتول، وملامح غليظة نوعا ما، وفي يده يحمل مفتاح السجن الكبير، الذي سيعود لأداء وظيفته ويغلق البوابة وراءنا. انتظرنا طويلا أن تُفتح البوابة الزرقاء، كان يقف بجوارنا، على الرصيف، أعداد قليلة من الأهالي الذين جاؤوا لزيارة ذويهم داخل السجن، أو ربما لتوصيل طلبات لهم، كانت هناك مداولات من مرافقينا مع ضابط صغير السن، أنيق، برتبة ملازم، يبدو أنه يجهز ترتيبات زيارتنا، بعد نصف ساعة تقريبا، فُتح الباب الكبير أخيرا، في تلك اللحظة فقط لفت نظري اليافطة الكبيرة المعلقة فوق البوابة "السجن المحلي بوجدة". كان "الشاويش" الذي فتح الباب له شارب أبيض مفتول، وملامح غليظة نوعا ما، وفي يده يحمل مفتاح السجن الكبير، الذي سيعود لأداء وظيفته ويغلق البوابة وراءنا. *** في الباحة الداخلية أمام الباب، كان هناك بعض المسجونين متحلقين حول أحد "الشاويشية" يتسلمون تعيين الغداء، من قازان التعيين. اقترب منا أحد ضباط الصف في السجن، وطلب منا تسليم التليفونات المحمولة وسلم كل منا بطاقة زائر، علقناها على رقابنا حتى يتم تمييزنا عن المساجين. أمامي مباشرة، وفي مواجهة باب الدخول، *** في الباحة الداخلية أمام الباب، كان هناك بعض المسجونين متحلقين حول أحد "الشاويشية" يتسلمون تعيين الغداء، من قازان التعيين. اقترب منا أحد ضباط الصف في السجن، وطلب منا تسليم التليفونات المحمولة وسلم كل منا بطاقة زائر، علقناها على رقابنا حتى يتم تمييزنا عن المساجين. أمامي مباشرة، وفي مواجهة باب الدخول، يظهر ممر من خلف شبكة حديدية، يؤدي إلى الجزء الخاص بالسجينات. *** بدأ قلبي يدق بقوة. حاولت أن أكبح صدى هذه الرجفة. لاحظتْ المشرفة التي نظمت هذا اللقاء، وهي كاتبة قصصية تدير جمعية أهلية في مدينة وجدة بالمغرب لمساعدة السجناء وتأهيلهم. المرة الأولى التي أتخطى فيها الخطوط الحمراء للسجن، ليس في مكان الزيارة المائع، ولكن في قلبه، حيث تصادر الحرية. ربما هذا ما أشعرني بهذه الرجفة، كوني تقمصت روح مسجون، ومس جلدي معنى الحرية المفقودة، فانتفض قلبي ومن بعده جسمي. ابتسمت "المنظِمة"، وهي تراقب هذه التحولات على وجهي، والتي مرت بها من قبل: أتخضيت؟ نعم، قلتها وأنا منوم. *** عندما عرض علي أحد منظمي معرض الكتاب بوجدة، والذي كنت مدعوا له منذ شهر، أن أشارك في لقاء شعري في سجن المدينة، كنوع من الترفيه وإشراك المسجونين في الحياة العامة؛ وافقت على الفور بدون تفكير. أحسست بفرح غامض، كأنني على وشك اقتناص شيء ما، بالدخول إلى عالم كنت أود دائما أن أطل من وراء نافذته، وأرى كيف تكون الحياة من هناك. كان السجن، بصورته التي ظهرت في الكتابات والمذكرات، التي خطها سياسيون وروائيون، هو مكان التعلم الحقيقي لاكتشاف معدن النفس. فبعد أن يتقشر الفضاء من حول جسم السجين، ولا يبقى له إلا فضاء الذاكرة كي يتمدد ويسيح فيه. *** في أحد السجون الأدبية، تحكي رواية "تلك العتمة الباهرة" للروائي المغربي الفرنسي الطاهر بن جلون، شهادة أحد المسجونين السياسيين من الضباط، وهو عزيز بنبين، الذين شاركوا، أو اتهموا، في تدبير حادث انقلاب الصخيرات عام 71 ضد الملك الحسن الثاني. حكم على هذا المعتقل بعشرين سنة، قضى منها ثماني عشرة سنة في معتقل "تزمامارت" الرهيب، الذي يبعث اسمه الخوف، لا يرى النور إلا لساعات معدوة وباقي الوقت في زنزانة صغيرة تحت الأرض. فكان يعيش، أغلب أيامه في ليل دائم. *** يكتب الطاهر بن جلون، على لسان بطله في الرواية، عن السجن الذي يتوقف فيه العمر عن الجريان ويبقى السجين مباشرة وجهه في وجه العدم: "منذ ليلة العاشر من تموز 1971 توقفت سنوات عمري. لم أتقدم في السن، ولم أجدد صباي. من يومها فقدت سني، فلم يعد باديا على محياي. والواقع أني ما عدت هناك لكي أمنح عمري وجها، إذ وقفت ناحية العدم؛ هناك حيث لا وجود للزمن، متروكا للريح، مستسلما لذلك الشاطئ الواسع من الملاءات البيض التي يرجحها نسم خفيف، موهوبا للسماء المفرغة من نجومها، من صورها، من أحلام الطفولة التي كانت هي ملاذها، المفرغة من كل شيء، حتى من الله" (تلك العتمة الباهرة– الطاهر بن جلون- ترجمة بسام حجار- دار الساقي- بيروت 2002). *** أثناء عبورنا إلى الداخل، مررنا ببوابة أولى، ثم ممر طويل. كان السور عاليا لدرجة مستحيلة، أصبحنا أمامه أقزاما. أحسست بأني أنكمش داخل نفسي. يتعدى طول السور أي إمكانية للهرب. طول بلا معنى، أو ربما بذخ في استخدام معنى القمع، ناتج من الخوف من الهرب، هذا الوسواس الذي يعشش داخل "لاوعي السجن". أمام السور من الناحية الأخرى، على بناية السجن نفسها، رسم أحد المسجونين، أو جميعهم، نخلة عالية أيضا، ربما تطاول السور وتناطحه في الطول، وتضع إمكانية الهرب محل التطبيق، ولو في الخيال. وربما رسموا النخلة فقط ليروا الفضاء خارج هذه الأسوار، بتسلقها في المنام، فليس هناك نوافذ تطل على الخارج سوى هذه النخلة، فنوافذ السجن جميعها تطل على الداخل، كجزء من العقاب، أو ربما الرحمة، حتى لا يشاهد السجين يوميا الحياة وهي تتوهج أمامه، وتتسرب من بين عينيه، بينما هو مقيد. ربما وجود هذه النخلة الخضراء دليل على شيء آخر: الحرية، كأنها نقيض لهذا السور، شيء ضد آخر. النخيل رمز لمدينة وجدة، التي تمتلئ أسواقها بعراجين التمر، التي يصنعون منه حلوى "المقروطة" الشهيرة هناك، وهي عبارة عن سميد محشو بالتمر، تشبه حلوى "المحلب" في مصر. *** بعد هذا الممر، عبرنا بالبوابة الثانية، اقتربنا من قلب السجن. كانت أصوات هتافاته تتصاعد قبل أن نصل إليه. أفضنا إلى فناء يلعب فيه السجناء الكرة، وهناك مشجعون يقفون على جانب الملعب، مررت بجانبهم، وتلمَّست وجوههم الفضولية. ومن بعدها انتقلنا لفناء آخر عبر بوابة أخرى. في هذا الجزء الأخير القريب جدا من القلب، كان يشكل أحد رموز السجن، وهو فناء المشائين، أو هكذا سمَّيته. كان هناك هؤلاء، الأكبر سنا، وربما الأكبر في سنوات العقاب، الذين يمارسون رياضة المشي، أو يقضون ساعات الراحة في التأمل. داخل هذه المساحة المحدودة سيكون التكرار شعيرة أساسية: تكرار السير في نفس الاتجاه عدة مرات ذهابا وإيابا في خط مستقيم، أو في شكل دائرة لا يخرج السجين عن قطرها حتى لا يتماس مع آخر يدور في دائرة أخرى، أو أحدهم يأخذ سيره شكل المربع، فيصطدم بحدة بزواياه القائمة. هكذا يتسع فناء السجن من الداخل ويتحول، بالتكرار، لمسافة تتجاوز حدود السجن الضيقة. *** بعد هذه البوابات الثلاث يقع قلب السجن، حيث الزنازين المغلقة والشبابيك الصغيرة ذات الشبكات الحديدية، التي يأوون إليها بعد نهاية اليوم. بعد هذا البراح، تعود هذه الأجساد المتناثرة في الفناء إلى الانكماش مرة أخرى داخل الزنزانة. رأيتهم بعد انتهاء اللقاء الشعري، وأرسلت لهم السلام من أمام نافذة الزنزانة. لم أقاوم فضولي ورغبتي في أن أختلس نظرة لأحد معاني السجن الجوهرية: كان هناك من يصلي، وآخر مضطجع، وآخر ممدد على الأرض، وآخرون ممددون على الأسرة، فضاء مليء بالتوتر والقلق، مهما بدا ساكنا وبدون صوت. *** أثناء الندوة التي ألقيت فيها شعرا، مع شاعرين من مدينة وجدة، وشاركنا شعراء من المسجونين؛ كنت أشعر بأنني بلا جنسية وهم أيضا بلا جنسية. ربما سلب الحرية يكسر حدود الجنسية، لأنه يلغي التمييز. كنت أستقبل ذبذبات مختلفة طوال مدة اللقاء، جعلتني أتحرك كثيرا على مقعدي، وأربط أصابع كفيَّ بعضها ببعض، ولا أعثر على طبقة صوتي الطبيعية. ربما كان اللقاء يحتاج، في بدايته، أن أفتح قلبي أمامهم لأتخلص من كل صور الخوف من السجن، وصور التقمص، والتعاطف معهم، وكل هذه المشاعر التي بدأت تحتلني وأحاول منعها، حتى نفتح بعدها صفحة جديدة بيضاء. كنت أعرف تماما أنني أمام تجربة من نوع خاص. *** قبل الندوة، التي أقيمت بقاعة مكتبة السجن التي تقع في الدور الثالث فوق الزنازين؛ سألت الضابط المرافق عن تهم هؤلاء المسجونين الذين سيحضرون اللقاء الشعري. قال إنها تتراوح بين السرقة والقتل، وعقوبتها ما بين سنة وثلاثين سنة، وصاحب هذه الأخيرة مسجون عقابا على جريمة قتل جارٍ التحقيق فيها. عندما سمعت هذا الرقم القياسي داخل السجن، وأن صاحبه واحد من هؤلاء الذين يجلسون أمامي في القاعة، بين هذه الصفوف التي تشرئب برؤوسها لتسمع الشعر أو تتفرج علينا؛ استغربت تماما أنه عنده الرغبة أصلا في سماع الشعر، وهو مازال أمامه ثلاثون عاما تتقدمه بدون أمل في الخروج. دخلت درجة أخرى إلى قلب السجن ورموزه ومعناه، فهناك كان يجلس أمامي "يائس حقيقي". لم أحاول أن أتعرف على هذا الشخص أثناء إلقائي الشعر، تركت وجوده حرا، قد يكون هذا أو ذاك، أو ربما ذلك السجين المكتئب الذي كان يجلس في الصفوف الأولى وألقى شعرا في نهاية اللقاء، ولكن عرفت أنه كان يعاني من المرض وأصر على الحضور، وأن هذا الوجه المتجهم سببه المرض وليس اليأس. ظل هذا السجين ذائبا وسط هذه الجموع، ولكن لم يمنع هذا أن أختلس بعض النظرات باحثا عن وجه هذا اليائس الحقيقي، الذي على رأسه ريشة تزن ثلاثين عاما. *** أثناء جلوسنا على المنصة، مالت علي المنظِّمة وطلبت مني أن تكون القصائد التي ألقيها بها شحنة أمل. هذا الأمل هو العملة الصعبة، فهناك تاريخ من الأدب والشعر يفتقد لهذا الأمل، أو لا يقوى على التصريح به مباشرة، فسيجده عبر تلافيف ذاكرة موجوعة أو متأملة، أو عبر تجارب لغوية غامضة. ارتبكت في البداية، ولكن اخترت قصيدة يفوح منها الأمل لمسافر دائم يعلق بنطاله دائما بمسامير الكراسي التي يجلس عليها في أسفاره، فيترك خيوطا تنسل منه عالقة بهذه المسامير، كضريبة أو دين لهذا السفر. ولكن سألت نفسي بصدق، هل هم يحتاجون إلى الأمل؟ هل الأمل بالفعل فاكهة مشتهاة؟ ربما تنحرف ذاكرة السجين ناحية معنى جديد للأمل، ويتلخص في قدرته على الاستمرار داخل هذه الجدران. مقاومة من نوع آخر، تنظر للمستقبل، كما كان ينظر الأمل تماما، ولكن بعين خلا منها البريق. *** "أدان القضاء المغربي الخميس في مدينة وجدة شمال شرق المملكة 17 شخصا بالسجن بين سنتين وأربع سنوات على خلفية الاحتجاجات التي هزت مدينة جرادة بين 2017 و2018. ووصف الدفاع هذه الأحكام ب"القاسية والكارثية جدا"، وتمت ملاحقة العديد من المتظاهرين أثر مواجهات بين قوات الأمن والمحتجين في هذه الأحداث" (موقع فرانس 24– نشر في 18– 1- 2019). كانت هذه الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مدينة جرادة الواقعة في الشمال الشرقي للمملكة المغربية منذ مطلع العام الجديد 2018 وذلك عقب وفاة شقيقين في منجم للفحم في شهر يناير 2018 ثم وفاة ثالث في بداية شهر فبراير من العام ذاته. (الموسوعة الحرة).