كانت قراءتي لكتاب «مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران»، للكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه، المولود في باريس عام 1940، فى العام الثانى أو الثالث من عقد التسعينيات؛ من المصادفات السعيدة التي غيرت حياتي. كتب دوبريه تلك المذكرات الفارقة في أثناء قضائه فترة سجنه فى بوليفيا، بسبب نضاله مع «**تشى جيفارا»، فقد قبضت عليه الحكومة البوليفية شهر أبريل عام 1967، وصدر بشأنه حكم بالإعدام، ثم خُفف إلى عشرين عاما، لم يقضِ منها سوى ثلاثة، وأطلق سراحه بعد تدخلات دولية للإفراج عنه، وذلك على أثر انقلاب حدث في بوليفيا. كانت قراءتي لكتاب «مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران»، للكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه، المولود في باريس عام 1940، فى العام الثانى أو الثالث من عقد التسعينيات؛ من المصادفات السعيدة التي غيرت حياتي. كتب دوبريه تلك المذكرات الفارقة في أثناء قضائه فترة سجنه فى بوليفيا، بسبب نضاله مع «**تشى جيفارا»، فقد قبضت عليه الحكومة البوليفية شهر أبريل عام 1967، وصدر بشأنه حكم بالإعدام، ثم خُفف إلى عشرين عاما، لم يقضِ منها سوى ثلاثة، وأطلق سراحه بعد تدخلات دولية للإفراج عنه، وذلك على أثر انقلاب حدث في بوليفيا. هناك العديد من التقاطعات والإحداثيات والمحطات النفسية والأخلاقية التي جعلت من هذا الكتاب مرجعا إنسانيا، لي وللكثيرين، لإعادة النظر فى العديد من المواقف الفكرية، التي تخص الوعي واللا وعي، بحثا عن الاتساق بين الفكر والحياة. هناك العديد من التقاطعات والإحداثيات والمحطات النفسية والأخلاقية التي جعلت من هذا الكتاب مرجعا إنسانيا، لي وللكثيرين، لإعادة النظر فى العديد من المواقف الفكرية، التي تخص الوعي واللا وعي، بحثا عن الاتساق بين الفكر والحياة. *** رغم قضائه ثلاث سنوات فقط، فإن هذه المذكرات كُتبت تحت الجدار الطويل للعشرين عاما، دون أى ثقة بأن هناك مستقبلا يمكن أن يلمسه. كانت مساحة الصدق ضيقة داخل السجن، ولكنها جارحة، أو بمعنى آخر، كما يصف ببلاغة، بمنزلة "الجرح داخل الصمت"، وهو حال السجن. *** عاش الكثيرون، وأنا منهم، مثل ريجيس دوبريه، لحظة تمرد طويلة محاطة بسجن مجازي يتكون أيضا من أربعة جدران ونارين. لم يكن تمردي منصبا على أى هدف أو فعل ثوري، بل على صفات شخصية وعائلية وطبقية، ولا تطمح لتغيير مجتمع، بل لتغيير إحداثيات الذات. وكأن هذا التمرد خيط لو شددته فيسحب معه قائمة من البناءات الفكرية الجمعية وعصبة من التقاليد، والأشباح، والصور، والنماذج التاريخية، كلها كانت جاهزة، فى نهاية هذا الخيط، لتنقض على تلك اللحظة. فى تلك اللحظة/ السنوات كانت هناك رغبة فى تضييق المسافة بين الداخل والخارج، لأظهر على حقيقتي، أو لأتَّبع الحقيقة حيثما كانت، حتى ولو كان فى اكتشافها قضاء عليّ "إن ما يسمى حقيقيا بالنسبة للفرد، هو هذه الحقبة من حياته المتطابقة مع الفكرة التي كوّنها عن الحياة، حين يحس حياته ترتفع وتتساوى، ذات لحظة، مع جوهره الحميمى، تنتزع نفسها من نفسها، تتخفف، تصبح تضحيتها الذاتية المتهللة، بالنسبة لكاتب أن يكتب..." (المذكرات: ص 165). فى تلك الفترة لم أكن فقط متساويا مع الحياة بل متفوقا عليها. البحث عن الحقيقة وضعني فى مكان متعالٍ على الحياة، وربما كان هذا الخطأ، أنك لم تعدل مع الآخر/ الحياة الذي تريد منه العون. هذا التعالي سمح بتسلل شعور طبقي برجوازي داخل ضفيرة ما هو حقيقى بالنسبة لي، داخل منبت تمردي نفسه، ورغبتي فى التحرر. أصبح هناك جزء غير متحكم فيه يأتي من زمن أسبق فى التكوين. *** تقدمت لوسط البحر، وسحبت الأبواب من ورائي، كعادة أى لحظة تحرر، ليس لها أبواب خلفية مفتوحة للهرب، كنت أبحث عن منفذ وسط "ورطة التحرر" هذه، التي تشبه من يتحرك فى ظلام غرفة مليئة بالجثث الفكرية وأشباح الموتى. فى كل خطوة هناك فرح بملامسة الموت، وأيضا تثبيت له. فى كل خطوة، أيضا، استبعاد عن الجماعة، وعن الأسرة، وعن السلطة الأبوية، والأمومية معا. وأيضا استبعاد لإمكانية استئناف الحياة، بعده، كشخص عادي وليس متمردا، وهو ما كنته قبل أن أدخل هذا المعترك الكبير من التحولات، فالتمرد، أو التحرر، له قوائم جاهزة سبقنا الكثيرون إليها، ولم يتركوا لنا امتيازا ولا نبوغا فيه، من طول عمره وقدمه وتعقيد مساراته، وتناقص هامش الحرية باستمرار. *** جاء كتاب "مذكرات برجوازي صغير" وفتح لي كل الأبواب الخلفية المغلقة، تلك التي أوصدتها خلال رحلة التمرد/ التحرر. منحني الكتاب إمكانية التراجع، ولكن بدون أي شعور بالسقوط أو الانكسار أو الذنب أو الخيانة، أو الهرب، والذي، عادة، يصاحب هذا النوع من التراجعات/ المراجعات الفكرية. ولكن بالعكس حدث انفتاح للفكرة نفسها، استسلام بدون أن تفقد احترامك لنفسك، كونك تفتح بهذا الاستسلام مكانا جديدا لرؤية نفسك والحياة، والآخرين. ليس مكانا أحاديا، يتسع فقط لعبورك، ولكن لعبور الكثيرين، الجماعة. فكان هذا الاستسلام نقطة لقاء بين الفرد والجماعة، فهذا اللقاء لا يوجد فقط في قاموس التمرد والكفاح، بل أيضا على الهوامش الحزينة له، بعيدا عن الضجيج، وبمشاعر مختلطة، وشجية، لها أكثر من مصدر نفسي. ***
يتحدث ريجيس دوبريه عن مصير الوعي الحاد الذي يتكون بسبب وحدة السجن، وأي وحدة مشابهة فى سجون أخرى مجازية، "فإن وعيا مشحوذا أكثر مما ينبغي يصبح، إذا طال الزمن، شفرة مدية ماذا يفعل بها المرء إن لم يوجهها إلى نفسه؟ حين يتحمل فرد ما وحدته تحملا منهجيا، فإنه لا يجد مخرجا آخر إلا الانتحار". (المذكرات ص 8) يكتب ريجيس دوبريه من داخل السجن عن هذا الوعي الذي يتوجه ضد صاحبه، الوعي الذي نحمله جميعا لحظة مواجهاتنا الحبيسة بين أربعة جدران، سواء كانت جدران السجن أو جدران العائلة، أو جدران الطبقة الاجتماعية، أو جدران السلطة الاجتماعية أو السياسية. هذا الوعي المشحوذ هو ميراث تلك الطبقة البرجوازية، ميراث تناقضاتها، مزيج الموهبة الشخصية، والكسل، والحساسية والخجل، بجانب الرغبة في التجاوز. يتحول هذا الوعي، وسط الوحدة الكبيرة التي يصفها بأنها "أكثر مما ينبغى"، التي يشعر بها صاحب هذا الوعي، سواء داخل السجن، أو داخل أي سجن مجازي آخر؛ إلى وعي دموي مخرب موجَّه ضد الذات. *** فى "مذكرات برجوازي صغير" يكلم دوبريه نفسه كآخر مخاطب، تعبيرا عن المسافة القريبة بينه وبين ذاته، وليست الفجوة، التي تفصل بين الأنا والآخر، اللذين فى سبيلهما للاتساق والحوار والتصالح عبر هذا الحوار الباطني الذى يدور فى ظلام السجن. هذا "الآخر" الذى يعيد سرد سيرته ويحاول أن يتدخل فيها بالتعديل والحذف والإضافة. *** هناك لغة هذيان واعٍ، متيقظ، تمتص داخلها المعرفة والمقولات الفلسفية والحكم وجوهر العقائد والأديان، والصور السينمائية، والصور الروائية وأبطالها، وصور الحياة اليومية وأبطالها، وأفكارها الأساسية، وأيضا تلك الصور البلاغية المُخترعة، فى لحظة الكتابة، في فضاء خياله الهاذي. تُعجن جميعها داخل مجازات أسلوبية جديدة، باهرة وغامضة وخاطفة. هناك جمل مبتورة وسريعة تتكئ على ميراث من الاستشهادات والمعارضات والتوقفات؛ لذا هناك حس شعري -لأن اللغة هدف داخل النص- وسخرية، وماكينة لتوليد الصور والعبارات الجديدة على أنقاض صور وعبارات قديمة. هناك انتقال من عالم قديم لآخر جديد، أو على الأقل، يقوم بالوصل بينهما، نص مزدحم بعلامات التنصيص والتضمين والأقواس، كأنه نص ينمو، يتداخل ويتخارج، ويزيح ويثبت نفسه في آن، ويستمد قوته من تقاطعه وحواره مع عدة نصوص وكلمات ومأثورات ومفاهيم راسخة. حتى ولو عطل هذا الأسلوب التضميني سيل الجملة وسرديتها، فجزء من بلاغتها يكمن فى هذه الانتظارات الطويلة والأفكار المتراكبة داخل الجملة الواحدة، التي يسحب فيها دوبريه بلاغات عدة فى ركابه. وينتقل بسلاسة بين المحسوس والمجرد، الذي يصل إلى حد استخدام المعادلات الرياضية وصرامة المنطق ليشرح فكرته الفلسفية المجردة. *** "وهكذا بفضل جمع عدد من الكتب عبر الزيارات التي كانت تقوم بها رفيقتى كل ستة أشهر (....)، تحول العقاب الجزائي لفترة قصيرة فى تدريب للدرس والاستبطان من الصعب توفره فى الحياة العادية (...) ولئن كان المجال الحيوي شديد الضيق فقد كان المرء على الأقل سيد وقته". (المذكرات ص 9). هذا هو اكتشاف السجن، أن يصبح المرء سيد وقته، ومستهلكه الوحيد، بدون ترهلات فى استهلاك واستثمار ما لا يلزم من العلاقات والأفكار داخل فائض الوقت هذا. إنه فائض وقت موجه للداخل وإعادة ترتيبه، فائض وقت ليس رأسماليا استغلاليا، ربما "فائدته" الأساسية هى البحث عن الشيء الجوهرى فى هذه الذات. *** وربما الجزء الشبيه فى حياتي الذى كنت أملك فيه فائضَ وقت ممزوجا بتساؤل وجودي، وبألم شخصى، هو الفترة التي تلت وفاة والدي، والتي جعلتني أعيد تقييم كل ما حدث لي قبلها، داخل عزلة نفسية اضطرارية، ومحاولة الخروج والصراخ ولكن بلا صدى. وفاة أبي سحبت مني امتياز الابن المتمرد، وأخذ موته سلطة الرمز الذي كنت أقاوم عبره ضعف نفسي وقلة حيلتي. امتدت هذه الحالة لسنوات من الصمت الخارجي ولكن المصحوبة بنوبات من الصراخ الداخلي. هدأ هذا الصراخ بعدها، وعندها استعدت القدرة على الكلام والكتابة والوضوح، بعد توقف دام ست سنوات تقريبا. فترة التوقف هذه هي فترة الاستيعاب وسجني الخاص الإرادي الذي تمت فيه المراجعة، على المراجعة الأولى، لفصل جديد من حياتي كان عنوانه "التمرد". وإلى الجزء الثاني من المقال الأسبوع المقبل. ……………………………………………………………… * المختارات من كتاب "مذكرات برجوازى صغير بين نارين وأربعة جدران"، ريجيس دوبريه، ترجمه عن الفرنسية سهيل إدريس، الطبعة الأولى- دار الأداب- بيروت 1977. ** في أثناء الحرب البوليفية، اعتقلت السلطات، بعد مقتل تشى جيفارا، الكاتب والمناضل الفرنسى ريجيس دوبريه، وحكمت عليه بالسجن لمدة عشرين عاما، ولكن انقلابا حدث عام 1970 خفف عن دوبريه قيود الزنزانة فى "كاميرى"، فسمح له بأن يقرأ ويكتب. وهذا الكتاب هو ثمرة أفكاره وتأملاته فى السجن، وفى كثير من مقاطعه يخاطب الكاتب نفسه، متحدثا عن كثير من هموم المناضلين والمثقفين، دون أن ينسى أنه ينتمي فى أصله إلى "البرجوازية الصغيرة". (من تقديم الكتاب على الغلاف الخلفى).