لم يعد مجال للجدل في أن بلادنا تعيش حاليا تحت الظل الثقيل لمعطى واقعي« »يجسد نفسه في هذا التفاوت الواسع في السرعات والتباين الشديد في الرؤية والحركة بين الثورة المصرية من جهة وفي الجهة الأخرى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي هبطت عليه السلطة فجأة في حادثة «اضطرار مزدوج» مشهورة ألقت بأهداف الثورة العاجلة في كنف المجلس العسكري، ليس اختيارا من قوى الثورة، بل اضطرار بسبب حقيقة عدم امتلاكها لحظة نجاحها في هدم وإسقاط قمة هرم نظام مبارك، لأي نوع من الأطر والأنساق التنظيمية التي كان من شأنها أن توفر لهذه القوى أداة قيادية مرجعية تسمح بإمساك الثوار بزمام أمور الحكم الانتقالي ولو بالمشاركة مع مركز أو مراكز قوية ولها اعتبار في الدولة والنظام القديمين (الجيش أساسا). والجيش بدوره كان الطرف الثاني في حادثة الاضطرار المزدوج تلك، فقد اضطرت قيادته، بدافع الواجب أو بدافع الواقع أو ربما بالدافعين معا، إلى التقدم لملء الفراغ الفجائي الشاسع في السلطة بينما هي غير مؤهلة ولا مستعدة، بل لا تكاد (بحكم الثقافة والطبيعة والاعتياد) تستوعب وتدرك تماما كنه ومعنى الحدث الثوري الجلل الذي داهمها، ومن ثم تعاملت مع متطلباته وطلبات الثوار باستغراب وريبة حتى بدا الأمر أحيانا أن هناك صعوبة شديدة في القبول والاعتراف بحقيقة أن ثورة عارمة اندلعت في البلد أصلا. ولا حاجة لتكرار الكلام التفصيلي عن نتائج هذا التناقض والتعاكس بين ما تراه قوى الثورة وما تفعله (أو لا تفعله) السلطة الانتقالية الحالية، ويكفي هنا الإشارة إلى الأزمة العميقة القائمة الآن التي هي الأقوى ضمن مسلسل احتقانات وأزمات تتابعت محطاته منذ ذهاب مبارك وأسرته إلى شرم الشيخ قبل خمسة أشهر. ولأن الحاجة، كما يقولون، هي أم الاختراع فإن الشعب المصري وثواره اخترعا للتعامل مع هذا الوضع (تعايش الثورة مع حكم انتقالي ليس ثوريا) أداة «ثنائية» الحركة، تارة تعمل في اتجاه احتضان الجيش وإغراقه بفيض من العواطف الصادقة على أمل أن يصل دفء الاحتضان لقيادته فيلين طبعها المحافظ قليلا وتتجاوب مع المتطلبات العاجلة للثورة، وتارة أخرى تكون الحركة في مسرح الضغط السلمي الذي يصل إلى ذروته في مليونيات أيام الجمع. هذه الأداة الثنائية بدت فعالة بدرجة ما، ليس في علاج حال الاختلاف المزمن بين قوى الثورة وقوة الحكم الانتقالي، وإنما في مراوغة هذا الحال ومراكمة نقاط ومكاسب جزئية ظلت تأتي على شكل «هدايا منتصف الأسبوع» أي قبل حلول يوم الجمعة. لكن أخيرا بدا أن هذه الأداة الثنائية الحركة تعطلت لدرجة أن «هدايا» منتصف الأسبوع المعتادة جاءت في مطلع الشهر الجاري عكسية تماما عندما صدم الرأي العام حكم قضائي أهدى البراءة لفصيلة كريهة من رموز النظام المدحور، وهو حكم عكس الخلل الفادح في إجراءات إقامة العدالة، الذي بدوره كان نتيجة منطقية للعشوائية وعدم الحماس اللذين طبعا القرار الاستراتيجي الاضطراري بإطلاق عملية حساب مبارك ورجاله على جرائمهم. إذن، نحن أمام تناقض لا حل له نظريا إلا بطريقتين في التفكير، الأولى ربما يذهب أصحابها في مغادرة الواقع وتجاهل معطياته وتوازنات القوى فيه إلى حد رفع شعار إنهاء حكم المجلس العسكري، الآن الآن وليس غدا! لكن طريقة التفكير الأخرى تبدأ من عدم تجاهل الحقائق الواقعية بل الاجتهاد في التعامل معها بروح متحمسة وتواقة لإبداع تطويرات كفاحية نوعية يتم إدخالها على «ثنائية الاحتضان والضغط» بحيث ترتفع كفاءة وفاعلية الجانب الأخير (الضغط) إلى حد يقنع المجلس العسكري بأن تصلبه خطر ومؤذ وقد يجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه.