مساء الأحد شاهدت على فضائية «التحرير» حوارا ممتازا أجراه الصديق إبراهيم عيسى مع الأستاذ معتز الفجيري، وهو قانوني شاب تحدث بعلم وخبرة راقيين عما يسمى «العدالة الانتقالية»، وهو نوع من نظم العدالة تحتاجه ولجأت إليه بالفعل بلدان ومجتمعات عانت، كما عانينا، من نظم حكم ديكتاتورية وإجرامية أمعنت في الظلم والقمع الوحشي، فلما سقطت تركت خلفها تركة ثقيلة قوامها جيوش من الضحايا وجدار خوف رهيب وسميك. هذه التركة ليس بالإمكان تجاهلها والإقلاع إلى المستقبل وبناء المجتمع الحر الجديد من دون عمل جاد ومخلص وسريع يرفع عبء ثقلها الفادح من على كاهل المجتمع عن طريق إطلاق عملية حساب للمجرمين تشتمل على تنظيم قضائي خاص مناسب للمهمة، وهذا هو بالضبط نظام العدالة الانتقالية الذي شرحه باقتدار معتز الفجيري، موضحا أن هذا النظام يتأسس على حزمة من إجراءات استثنائية تشريعية وقضائية تحقق التوازن المطلوب بين معايير المحاكمات العادلة، والسرعة والكفاءة، بمعنى أن «الاستثنائية» هنا ليست القضاء الاستثنائي (كالمحاكم العسكرية)، وإنما العكس التام لما جرى ويجري عندنا من بعد ثورة يناير، أي ذلك الاعتماد البليد على القضاء العادي الذي هو بطبيعته غير مؤهل، لا بتركيبه التنظيمي والمؤسسي ولا بالطاقة البشرية المتاحة له، للتعامل مع ملف بهذه الخصوصية يضم بين دفتيه وقائع مروعة ارتكبها جيش جرار من المجرمين ما زال أغلبهم يتمتع بقوة مالية هائلة وبقايا نفوذ هائل يوفر فرصا كبيرة للإفلات من أي عقاب على نحو ما شاهدناه فعلا الأسبوع الماضي عندما داهم الناس حكم قضائي أنعم بالبراءة على فصيلة كاملة من رموز نظام مبارك. طبعا الساحة الآن يسرح فيها قطيع من الجهلة المتحزلقين (جلهم من جنس «الفلة» التي جمعها فلول)، هؤلاء يهلفطون كتابة أو شفاهة بكلام فارغ من نوع ضرورة التخلي عن «الروح الثأرية» وترك الماضي يمضي لحال سبيله والنظر فقط للمستقبل. هؤلاء يتجاهلون عمدا الفرق الشاسع بين الثأر والعدالة، وأن هذه الأخيرة شرط لازم لإغلاق جراح الماضي على نظافة، لكنني أهديهم وأهدي القراء الأعزاء معهم ملخصا مخلا جدا لوقائع مسرحية رائعة كتبها الروائي والمسرحي التشيلي أرييل دورفمان (رفيق مواطنه الشاعر الشهيد بابلو نيرودا)، هذه المسرحية التي نشرت في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد سقوط الديكتاتور العاتي بيونشيه، استعار الكاتب اسمها «الموت والعذراء»، من رباعية وترية أبدعها الموسيقي النمساوي فرانز شوبرت حملت الاسم نفسه، أما التيمة الرئيسية في المسرحية التي اقتبسها المخرج السينمائي الكبير رومان بولانسكي وحولها لفيلم عام 1992، فقد استوحاها دورفمان من واقعة حقيقية نشرتها الصحف أيامها. تدور دراما «الموت والعذراء» في بلد خرج للتو من حكم ديكتاتوري قاس (هي تشيلي نفسها) وأبطالها ثلاثة فقط هم زوجة وزوج وطبيب.. الأولى ضحية تعذيب بشع تعرضت له في سجون الديكتاتورية وصل إلى حد اغتصابها مرات عدة لكي تعترف على زوجها الناشط السياسي المعارض، لكنها لا تعترف، بل تصمد أمام العذاب الرهيب الذي كان يتم تحت إشراف طبيب غريب الأطوار، إذ كانت عادته أن يسمع ويستمتع ويسمع ضحاياه خلال علميات الاغتصاب موسيقى رباعية شوبرت. بقيت الزوجة 15 عاما لا تستطيع نسيان ما جرى لها، وفي مساء أحد الأيام بعد سقوط الديكتاتور وتشكيل لجنة قضائية وطنية للتحقيق في وقائع القمع التي شهدتها البلاد كان زوجها نفسه واحدا من أعضائها، فاجأها هذا الأخير بأنه يصطحب معه إلى البيت رجلا غريبا تعرف عليه عندما تعطلت سيارته في الطريق، فوقف له الرجل وعرض بلطف مساعدته وتوصيله لبيته، لكن الزوجة سرعان ما تكتشف أن الضيف الغريب يحمل نبرات صوت الطبيب نفسه الذي أشرف على اغتصابها، وتحولت شكوكها إلى يقين عندما اختلست مفاتيح سيارة الطبيب وفتشتها، فإذا بها تعثر على شريط رباعية الموت والعذراء، عندها تهاجم الرجل وتقيده وتجعل منه سجينها ساعية إلى راحة القصاص، بعيدا عن بيروقراطية وبرودة لجنة زوجها الرسمية. المسرحية تمضي بعد ذلك في حوار فلسفي وصراع لفظي حامي الوطيس بين الشخصيات الثلاث، يبدأ بسؤال الزوجة الضحية: كيف يمكن للجلادين وضحاياهم أن يعيشوا على أرض واحدة؟