تنبيه واجب يؤكد راوي الحكاية التي ستقرأها حالا عدم مسؤوليته عن أي تشابه بين وقائعها وأي وقائع أخرى قد تكون حدثت فعلا لواحد من «الأندال» الذين ما زالوا يملؤون المسرح.. تنهد صاحبنا تنهيدة مفعمة بالرضا، وتوقف (مؤقتا) عن غرس سن قلمه الذهبي الفاخر في لحم كومة الورق التي أمامه، ثم كعادته راح يقرأ بصوت مسموع ما تفتقت عنه قريحة النفاق والكذب التي يباهي بها أمم الدنيا أجمعين.. وبمزيج من الإعجاب والراحة أنشد على نفسه آخر فقرة كتبها: «.. ستبقى مصر مبارك شامخة سامقة، تنعم بالاستقرار والاستمرار، ولن تحيد أو تميل، ولن تستجيب أو تتنازل أبدا أمام هذه الحفنة الغوغائية العميلة التي باعت ضمائرها بالدولار، وتعمل وتتحرك الآن وفقا لأجندات وكراسات وكشاكيل أجنبية..». توقف فجأة وراح يعيد قراءة عبارة «أجندات وكراسات وكشاكيل أجنبية» فلما لم تعجبه لفظة «كراسات» شطبها بقسوة واحتفظ فقط «بالأجندات والكشاكيل الأجنبية».. وفي اللحظة التي عاد فيها واستل القلم، وبدا متأهبا لاستئناف عملية غرس القلم في لحم أوراقه، هتف واحد من العشروميت تليفون المسجاة على يمين مقعده.. لم يخف ضيقه، وأشار بيده إشارة بذيئة قبل أن يرفع السماعة ويزعق: فيه إيه يا مشيرة؟.. أنا مش قلت مفيش تليفونات لغاية لما أخلص كتابة؟ يا افندم ده البيت.. المدام. طيب يا أختي إديهالي (عدّل نبرة صوته وكساه بود مصطنع) أيوه يا أم كريم.. خير؟ ما بتردش ليه ع الموبايلات بتاعتك؟ ما انتي عارفه.. عاملهم كلهم «سايلنت» عشان بكتب.. بتكتب.. اسم الله.. طيب شوف بقى إيه اللي جالنا من كتابتك.. جالكم.. جالكم الخير كله ياولية.. مالك؟! مش مالي أنا يا فالح، مال ابنك كريم.. الواد ياضنايا راجع البيت مقهور وحالته النفسية زي الطين.. خرج راح فين.. الجامعة مقفولة؟! ميدان التحرير.. وإيه اللي وداه ميدان الزفت؟ راح مع زملائه وأصحابه.. مصر كلها موجودة في التحرير ماعدا أنت واللي زيك.. فيه إيه ياستي ع الصبح؟! فيه إن ابنك الناس كلها بيعايروه بسيادتك وبيسمعوه كلام زي السم.. بيقولوا عليك حقير ومنافق وكذاب وبتشهر بالثورة والثوار. ثورة وثوار إيه، دول شوية عيال عملاء وبتوع أجندات أجنبية.. أجندات إيه يا أبو أجندات.. أنت بتصدق الكلام الزبالة اللي بتكتبه كل يوم؟! أهي الزبالة دي يا أختي اللي بتأكلكم بغاشا.. على العموم لما أرجع ح اقعد مع كريم وافهمه كل حاجة، بس أبوس إيدك ابعدي عني الساعة دي.. لم يتيسر لراوي هذه الحكاية معرفة ما جرى بين كريم وأبوه، غير أن الراوي كان حاضرا وشاهدا على ما حدث بعد يومين من إعلان سقوط الرئيس المخلوع، لقد كان صاحبنا ما يزال قاعدا منجعصا في مكانه على كرسي رئاسة التحرير، وبينما هو يعبث بقسوة في جثة الورق، ومض واحد من هواتفه النقالة، فالتقطه بحبور ظاهر، بعدما رأى اسم أم كريم يضيء الشاشة، وبادرها قائلا: هيه ياستي.. خلاص كريم انبسط ورضي عني؟ انبسط.. ده أنا عمري ماشفت الولد في الحالة دي.. ليه؟! ألم يقرأ مقالي النهاردة؟ المصيبة أنه قرأه.. ليه ده أنا طلعت (كذا) أم مبارك ونظامه!! يا أستاذ ابنك عايز يشيل اسمك من بطاقته الشخصية، وسألني لو كان ينفع يحط اسم أبويا (جده) مكان اسمك. إيه الجنان ده؟! أمدح مبارك يزعل، أشتمه يزعل برضه.. هو أنا لا كده عاجب ولا كده عاجب.. الناس بيقولوله أبوك عاش منافق وختمها بالندالة