بمناسبة ما أثاره ما يسمَّى ربيع الحرية فى العالم العربى، وما تبعه من خماسين تسوناميات الديمقراطية، بما أثارته من فيضانات التوك شو، وشلالات المقالات، وأسواق الفضائيات، ومليونيات الميادين، وأحضان لقاءات رؤساء الأديان الطيبة وتفويت بعضهم لبعض فى تصريحات لا يجرؤ أى منهم أن يعيدها فى دور عبادته الخاصة... بمناسبة كل هذا «الكلام» الذى تم تحديثه وتسويقه بوسائل التكنولوجيا الأرشق والأسرع من فيسبوك إلى تويتر إلى مدونات إلى مواقع، بمناسبة كل ذلك، ابتعدت عدة خطوات عن المنظر، واعتذرت بعض الاعتذارات عن المشاركة، ورجعت إلى تساؤلاتى القديمة التى تعلمتها من مرضاى، وبالذات من خلال تِقْنية العلاج الجمعى. حين نبدأ جلسة العلاج الجمعى نبدؤها بسؤال يطرحه المعالِج الأساسى على المشاركين من مرضى وزملاء قائلا «مين اللى عايز يشتغل»؟ ويتعجب المشاركون الجدد من السؤال، فنحن جلوس لمدة تسعين دقيقة، على كراسى فى دائرة، فأين هذا الشغل المطلوب من أى منا من «الوضع جالسا»؟ ويشرح المعالج أننا «هنا والآن» لا لنفضفض كما يشاع عن العلاج النفسى، ولا لنُخرج ما بداخلنا نتمعن فيه، أو نُهوّى عليه، ولا لنفسر ماضينا بما تيسر من فتاوى تبدو علمية، وإنما لنعمل معا على «تغيير» محتمل، يعيننا على التخلص من «عجز المرض» إلى «فعل الصحة»، بأن نركز على «إِذَنْ ماذا؟» دون التوقف كثيرا عند «لماذا؟»، يساعدنا فى ذلك أن تكون كل تفاعلاتنا مع بعضنا البعض «هنا والآن»، حتى لا تسحبنا الكلمات إلى مجرد الحكى، ويؤكد المعالج بين الحين والحين أننا لسنا هنا لنتكلم، لكننا نستعمل الكلام (وغيره) لنتواصل. تمنيت أن تتبنى إحدى القنوات مثل هذا اللقاء، وتصبر على مواصلته يوما بعد يوم، أو أسبوعا بعد أسبوع، كما حدث منذ سنوات فى قناة النيل الثقافية لمدة عام تقريبا، لكنها كانت تجربة قاصرة على ممارسة «أدوار-ألعاب.. نفسية كشفية» نكتشف من خلالها بعض جوانب ثقافتنا بطريقة غير الإملاء وإصدار الأحكام حتى تحت مسمى البحث العلمى، تصورت أننا لو تمكنا من مثل ذلك، فقد يتغير المنظر السياسى ولو بعد حين. ثم اكتشفت أننى كتبت منذ ثلاثين عاما (مجلة الإنسان والتطور عدد يوليو 1980)، استلهاما من العلاج الجمعى، أشرح هذا النوع من الحوار، وهو ما تمنيت الآن (2011) أن ينفعنا فى السياسة برغم ظاهر الاستحالة، لكنه الأمل. ما الحوار؟ وما الفرق بينه وبين النقاش؟ وأين يقع من الجدل والجدال؟ وباختصار نقول: ما الفرق بين «جدال التباهى» و«حوار المعايشة»؟ فى تصورى أن الحوار لا يصبح معايشة إلا حين يكون قادرا على التغيير، لا تغيير الرأى فقط وإنما تغيير الموقف من الحياة وتغيير الفعل فى الحياة. كلما دخلتُ طرفا فى حوار ما، وطالبت الآخر -بينى وبين نفسى- بأن يعيد النظر، سألت نفسى عن مدى استعدادى شخصيا لإعادة النظر، وحين أجد أن هذا الاستعداد ضعيف «أعذر الآخر» إذا تجمد أو حتى تراجع وتمسك أكثر برأيه المبدئى، ثم أبرر «يقينى الخاص» بدعوى اتساع مساحة وعيى عنه، ثم أتصور أنه يفعل مثلما أفعل وأنه واثق تماما من بدايات موقفه، فأكاد أتراجع، وأكاد أجزم أنه لا فائدة من أى حوار ما دام الجميع على يقين من يقينهم، لكنى بعد مرور فترة من الزمن، تطول أم تقصر، أكتشف أن هذا الرأى المخالف لرأيى قد حملتُه معى رغما عنى، وأنه ظل يعاودنى دون استئذان بعد انتهاء المواجهة، ثم إنه قد زاد تداخله فىّ حتى يكاد يصبح من مكونات فكرى من غير قصد واع، حينئذ أكتشف أنه كان ثمة حوار، وليس معنى ذلك أنى أكون قد اقتنعت به وإنما الأغلب أن يكون قد أصبح جزءا من أبجدية معرفتى الجديدة، وربما قفز منى وأنا أعيد صياغة فكرى، وقد يفاجأ من يعاملوننى مثلما أفاجأ أننى رجعت فى كلامى، وأنى أؤكد موقفى من أنه «يسقط الثبات على المبدأ». وهكذا رحت أتبين الفرق بين «جدال التباهى» و«حوار المعايشة»، وفهمت ما نوع الجدال الذى نهانا ربنا عن ممارسته فى أثناء الحج جنبا إلى جنب مع الرفث والفسوق (لا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج). يا تُرى ما معالم حوار المعايشة، تحديدا؟ ما أمكن ذلك؟ أقتطف من مقال كتبته منذ ثلاثين عاما ما يلى: 1- الأصل أن تبدأ الحوار وأنت شديد التمسك برأيك، لأنه رأيك، وهو أنت وهو نتاج رحلة طويلة حتى أصبح هو رأيك، وذلك كنقطة انطلاق ثابتة تتخطى الميوعة المحتملة النابعة من ادعاء غير ذلك، مثل ادعاءات حرية الرأى تلامسا، أو قبول الرأى الآخر تفويتا. 2- أن تقبل من المحاور الآخر موقفا مماثلا متشددا لا يقل عما بدأتَ به أنت. 3- أن تتفتح معظم الوقت «لاحتمال غير ذلك» مجرد «احتمال»، لأى: «غير» «ذلك» دون شروط. 4- أن ترجو (أو تتمنى) من غريمك مثل ذلك. 5- أن تواصل المحاجَّة بإخلاص من يوقن أنه على حق كامل لكن دون استعلاء فوقىّ، أو تفويت انسحابى. 6- أن تضع احتمال أن تنتصر أو تنهزم طوال الوقت، فإما: (أ) أن تنهزم بأمانة الشجعان، فتبدأ رحلة التغيير... وتُرعَب وأنت تخطو إلى الجديد المجهول رغم تحديد بداية معالمه من خلال معالم الرأى المنتصِر، وإما (ب) أن تنتصر حين تدمغ حجتك حجته- فتزداد معاناة لأنك سوف تتحمل أكثر وأكثر مخاطر يقينك (المرحلى بالضرورة) وبألفاظ أخرى: إن هزيمتك تلزمك بالتغير، أما انتصارك فهو يلزمك بالمراجعة (مع الحذر من ادعاء الهزيمة الانسحابية المناوِرة أو الانتصار الزهوى الماحِى لوجود الغير). 7- أن تكتشف أنك تحتوى الحوار بشقيه لأكبر فترة تقدر عليها، وهو يعاودك كلما أتيح ذلك، ليصبح بشقَّيه: زادا جديدا يسهم فى تكوينك الجديد، فتجد أن المحاور الذى هزمك قد قبع فى داخلك تأتنس به أو تعود تصارعه، أو قد تكتشف أن المحاور الذى هزمتَه يتبعك مقتنعا فيثير فيك مسؤولية اليقين، فاحتمال المراجعة. انتهى المُقتطَف من يوليو 1980 فهل أضيف الآن (25 سبتمبر2011 ) سؤالا يقول: هل يمكن تصور أن أيا من ذلك مطروح بين القوى السياسية المختلفة حالا، بما فى ذلك اجتماع القوى السياسية مع ممثلى المجلس العسكرى؟