الفرق بين سكان المدينة وسكان الميدان ينقذني. سكان المدينة يسألونني ويسألون بعضهم بعضا أسئلة لا تنتظر إجابة، أسئلة غرضها الوحيد التعبير عن الفزع والكآبة التي تتملكهم. وسكان الميدان أيضا لا يتوقفون عن طرح الأسئلة، ولكنها نوعية من الأسئلة تبحث عن إجابة واضحة ومحددة، ولا يقبلون أبدا التسويف. وغالبا يكون لدى من يطرح السؤال إجابة ويريد أن يختبر صحتها. تجد مثلا من يسألك -بغضب- هي الناس بتوع التحرير دي عايزين إيه؟ فتجيبه إجابة بسيطة (عايزين حق الشهداء)، فيرد (أيوة أنا عارف بس مافيش فايدة، كله هيطلع براءة مهما عملوا في التحرير، هو في بلد أصلا ولّا محاكم.. دي بلد بايظة). فتجيبه (طيب هما عايزين يصلحوا البلد)، فيرد (لأ دول عايزينها تولع). صيغة نفس السؤال عند سكان الميدان أو زواره تكون (ليه الإصرار على عدم محاسبة قتلة المتظاهرين؟ هل خوفا من ضباط الشرطة؟ هل يعتقدون أن البطء هيتوه الموضوع؟ مش ممكن لأن أهل الشهدا والمصابين نفسهم وأهلهم مش هينسوا، في ناس مستعدة تموت عشان تاخد حق ولادها، لو الحكاية وصلت إلى أن كل واحد ياخد حقه بإيده هتولع). إذن الجميع يخشى نفس النتيجة، ولكن لأن التشخيص مختلف تأتي اقتراحات الحلول مختلفة. سكان المدينة يرون أن يستسلم الجميع ويعودون إلى حياتهم المتاحة لهم ويتحملونها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وسكان الميدان يبحثون عن وسائل ضغط على الحكومة أو على المجلس العسكري، للحصول على حقوقهم. سكان المدينة يرون أن الإصرار على الحقوق سيؤدي إلى كارثة، وسكان الميدان يرون أن الكارثة الحقيقية هي الاستسلام. وأنا مع سكان الميدان، رغم أنني أقضي في المدينة وقتا أطول. وأعتقد أن من يحكمنا ليس مع هؤلاء ولا أولئك، من يحكمنا -في الغالب والله أعلم- مع نفسه. ويعتقد أنه سينجو بنفسه إذا زادت الهوة بيننا، فقضى فريق منا على الآخر. أو بشكل أكثر تحديدا قضى سكان المدينة على سكان الميدان، مستخدما في ذلك سلاحين الأول هو استفزاز سكان الميدان لكي يصعدوا من أشكال التعبير عن اعتراضهم، والثاني هو بث دعاية غير مباشرة تدفع سكان المدينة في اتجاه الاعتقاد بأن سبب كل مشكلاتهم وجود معتصمين في ميادين التحرير. هذان السلاحان سينجحان في خلق مشاعر سلبية لدى كل طرف تجاه الآخر، لكن ما فاتهم أن الطرف المستسلم هو طرف سلبي لا يدافع عن حقوقه ولا يرغب في بذل الجهد، وهو أيضا -وبالتبعية- لا يمكن أن يتحرك لمهاجمة من يعتقد أنه سبب كل مشكلاته. لذلك إذا حدث وهاجم مدنيون سكان الميدان، فلن يكونوا إلا بلطجية أو مأجورين. لن يتحرك سائق تاكسي استمع إلى «راديو مصر» طوال اليوم فتأكد أن سبب فشله في دفع أقساط السيارة هو اعتصام ميدان التحرير.. لن يتحرك لفض الاعتصام. سيظل يسب ويلعن في المعتصمين حتى يركب معه راكب أتعب عقله في التفكير قليلا ويقنعه أن المعتصمين يدافعون عن حقوقه، فيحول لعناته وسبابه إلى الحكومة. أنا عن نفسي لم أرحب إطلاقا بفكرة إغلاق مجمع التحرير وأعتقد أن إغلاقه خسارة للمعتصمين وليس لموظفيه أو جمهور المتعاملين، لأن هؤلاء يمكن أن يكونوا أفضل سفراء يحملون مطالب الميدان إلى المدينة، والأمر نفسه ينطبق على محطة مترو الأنفاق، أما الإضراب عن الطعام فمن يعتقد أنه وسيلة ضغط هو بالتأكيد حافظ مش فاهم!! لكننا جميعا ليست لنا خبرة بأساليب التصعيد المناسبة، كما أن من يحكموننا ليست لديهم خبرة بأساليب التعامل مع شعب يسعى للحصول على حريته.