نادية.. كانت البداية، كنت أنظر لهذا المؤلف الجميل، تحتضنه دفتا كتاب، يجذبنى لون الغلاف الذهبى، وتثير شغفى لقراءته وجه تلك الفتاة على غلافه والدموع بادية فى عينيها. كثيرا ما تأملت هذا الكتاب على الرف فى دولاب أمى، كنت أستأذنها إن كان يمكننى قراءة هذه الرواية فكانت ترفض متعللة بأنى ما زلت صغيرة وأنها كبيرة على سنى.. ولكنها كانت تسمح لى أن أمسك الكتاب بيدى وأتأمله ثم أناولها إياه لتعيده مكانه على رف الدولاب، كان من الكتب المحببة إليها والتى تخصص لها مكانا خاصا فى دولابها. كانت فرحتى كبيرة عندما سمحت لى أمى تحت إلحاحى أن أقرأ رواية «نادية» ليوسف السباعى، كنت فى الصف الأول الثانوى، دلفت إلى غرفتى وأنا فى قمة السعادة، أحتضن هذا الكنز الثمين بيدى وقد طال انتظارى لقراءته. وجدتنى أعيش مع بطلة الرواية نادية، وأختها منى، ذهبت معهما للنادى بالمعادى، وسبحت فى أحلام كلتيهما، تألمت لمصاب نادية، الحرق الذى أصاب عنقها، سافرت معها إلى فرنسا، وشعرت بالأجواء الباردة من صفحات الرواية، قرأت معها رسائلها لدكتور مدحت بطل الرواية، صعدت معهما التلال، ورقصت على أنغام فالس الوداع معهما. بكيت كثيرا لموت منى، الأخت التوأم لنادية، وتوترت لما جال فى خاطر نادية من إنكارها لذاتها أمام البطل عندما زارها فى فرنسا، وسعدت كثيرا أنها انتهت نهاية سعيدة. جعلنى يوسف السباعى رحمه الله أكتشف حبى للكتابة، لقد مثل لى الملهم عندما فكرت فى كتابة أول رواية لى فى سن الخامسة عشرة (وجفت الدموع) ولم أكن أعرف أن له رواية بنفس الاسم، كانت مخطوطة، فور انتهيت منها «جريت» إلى مدرس اللغة العربية بمدرستى، وعرضتها عليه.. بعد أيام أعادها إلىً، شجعنى للاستمرار فى الكتابة وعرفنى الفرق بين الفنون الأدبية المختلفة ونصحنى بقراءة المزيد. يوسف السباعى كان قامة كبيرة فى سماء الأدب والحياة العسكرية، فقد تخرج فى الكلية الحربية وعمل مدرسا فيها وكان مديرا للمتحف الحربى، ووصل لدرجة عميد، وربما اتخذ الاهتمام بالأدب لديه شكلا وراثيا، فكان والده محمد السباعى دارسا للأداب وقرأ وكتب فيه، فكتب رواية (الفيلسوف) وتوفى قبل أن ينهيها، فأكملها يوسف السباعى ونشرها مع تقديم بواسطة طه حسين، وبعد تقاعده بدأ يولى اهتماما أكبر للأدب الذى كان هواية له من بدايات شبابه، وكتب العديد من المجموعات القصصية والروايات آخرها رواية العمر لحظة، وتحولت معظمها لأعمال روائية سينمائية كبيرة، وأطلق عليه نجيب محفوظ اسم (جبرتى العصر) لأنه سجل أحداث ثورة 23 يوليو حتى بشائر النصر كما فى روايته (رد قلبى)، وقال عنه توفيق الحكيم إن أسلوبه سهل عذب. يوسف السباعى ترأس عددا من المجلات والجرائد مثل المصور وآخر ساعة والأهرام، وكان له الفضل فى إنشاء نوادٍ وجمعيات أدبية مثل نادى القصة واتحاد الكتاب والمجلس الأعلى للفنون وعينه السادات رحمه الله وزيرا للثقافة، وبسبب تأييده لمبادرة السلام مع إسرائيل، لقى حتفه فقد اغتيل فى قبرص عندما ذهب على رأس وفد مصرى لحضور مؤتمر التضامن الأفرو أسيوى باعتباره أمين عام منظمة التضامن الإفريقى الأسيوى.. كان محبا للوطن، مهموما بقضاياه وأهمها الفقر، الجهل والمرض. يوسف السباعى سيظل رمزا لزمن مرحلة الرومانسية فى الأدب، ليس هذا فحسب، فقط كانت له دائما رؤيته السياسية الاجتماعية فى كل كتاباته، كان مثالا لدماثة الخلق، كان محبوبا متواضعا كما يقال عنه، لم ألتق به وإن كنت عايشته فى كتاباته فألهمتنى حبى للكتابة، وتأثرت بأسلوبه سواء فى أدب رحلاتى أو فى قصصى.. رحمه الله، فمنذ أيام كانت ذكرى استشهاده على يد متطرفين عرب بقبرص. من أجمل أقواله: (أعلم مشقة الكتابة عندما تعوزنا الرغبة فيها، كما أعلم مشقة الصمت عندما نتلهف على الحديث)، (إن ربح العمر ساعات السرور.. وأحكم الناس رجلٌ استطاع ألا يحزن فجعل كل عمره ربحا).