لكنهم أفسدوا المشهد. أقصد هنا متوسطى الموهبة، هؤلاء المنتشرين فى التليفزيون والصحف المملوكة للدولة، تصرف عليها من أجل أن تكون جيشا إعلاميا لحراسة الجالس على كرسى أو طاولة الحكم. يسمونهم فى الأدبيات الحديثة: ميديوكر. وهم الأكثر انتشارا منذ احتلال مبارك الغشيم كل سنتيمتر فى مصر. الميديوكر هم الميليشيات الفاعلة لديكتاتور من نوع مبارك، ينتفخون سريعا، ويغرقون فى الترتيبات والمؤامرات، وعند الأزمة تكون حلولهم محدودة. الخيال فى ثورة 25 يناير هزم الميديوكر. هزمهم لأنهم كانوا قد فردوا قلوعهم بامتداد مصر كلها، وفرضوا ذوقهم وقتلوا كل إمكانية تجاوز سقفهم الذى لا يبدو منخفضا لكنه ليس عاليا فى نفس الوقت. الميديوكر أفسدوا مشهد المشير. أفسدوه بكل ما لديهم من تسرع فى حجز مكان على سطح سفينة يتصورونها تبحر إلى قصر الحكم. طبعا ليس التسرع وحده الذى جعل تليفزيون الحكومة يدير مشهد جولة المشير فى وسط البلد بالبدلة المدنية. المشهد لم يستغرق أكثر من دقيقة، لم تتح لكاتبه أن يمعن فى التفاصيل، ويبدو أنه وقع تحت تأثير الصراع بين دقة المشهد والتفاصيل، والقدرة على توفير الحماية للمشير أكثر من هذه الدقيقة. المشهد افتقر إلى العفوية رغم أن هناك مَن اجتهد ليبدو عفويا، لكنه المجهود الذى يفسد الهدف. ما الهدف؟ لا أحد يعرف، أو مَن يعرف يفكر بعقل قديم جدا لا يستوعب الخبرات أو تاريخ العلاقة بين الشعب والحاكم فى مصر. كل الحكام خلعوا البدلة الميرى وارتدوا بدلات مدنية، بل كان عبد الناصر يحب القمصان بالكم القصير، لكنهم فى النهاية عسكر، وعقلهم فى الحكم عسكرى، وشرعيتهم شرعية الغالب يسيطر. العسكر لا يعترف إلا بالقوة، وحتى لو سمح للمصور بالتقاط مشاهد له وهو بالملابس الداخلية كما فعل السادات وهو يسعى إلى أن يستوحى الموديل الأمريكى. مبارك أصابته كراهية البدلة العسكرية بعد قتل السادات وهو يجرب الموديل الجديد الذى صممه المصمم البريطانى مستوحيا أفكار الجيش الألمانى. لكن مبارك بالبدلة المدنى ظل هو هو الجنرال البطريرك الذى يجمع كل شىء فى يده، منفردا بالصولجان ومفاتيح الثروة والسلطة والوجود. مبارك الذى كان بحسبة قوة الشخصية أو الكاريزما ضعيفًا، ركب على موديل الجنرال بالبدلة المدنية، وكان الأشرس والأكثر قدرة على تفريغ البلد من قوتها الحيوية. البدلة ليست هى نظام الحكم. إنها رمز الخديعة التى عاشها المصريون سنوات طويلة حين كان الجنرال يخلع البدلة العسكرية لكى يحول الشعب كله إلى جيش فى خدمته. ربما كان المشير يريد أن يقول الكثير من ظهوره المفاجئ، يريد أن يقول إنه لا يخاف من الناس، وإن له وجها مدنيًّا، وإن الشعب يحبه رغم شهادته فى محاكمة مبارك. رسائل كثيرة.. لم تصل. وصلت بشكل عكسى لأنها رسائل مصنوعة بعقلية 40 سنة فاتت، ولأن المشاهد التكميلية أفسدها الميديوكر الذين لا يتحمل الجنرالات غيرهم. مذيع التليفزيون هلّل ووصف المشهد بأنه سَبْق يكشف قدرات الجهاز الرسمى على المنافسة. أما ضيفه فقد كشف المشهد أكثر مما تسمح به اللحظة، وتحدث عن إمكانية أن يحكم المشير ما دام ارتدى البدلة المدنية. قالها وكأنه يكشف سرية المشهد أو الخطة المرتبطة به. هل كان المشير يعلن ترشيح نفسه للرئاسة وسينضم إلى قائمة «المرشح المحتمل»؟ أم أن المشير يقول للثوار لستم وحدكم فى وسط البلد؟ لا أحد يعرف. المشهد كما تم، بدا للجميع أنه مصنوع، وحبكته قليلة، ويكشف -وهذا هو الأهم- عن نيات غير معلنة تحت الخطابات المعلنة لإدارة المرحلة الانتقالية. هذا الاكتشاف سر الغضب والسخرية.. من مشهد البدلة.