لم تعد أقسام ومراكز الشرطة بؤرًا، تنتهي فيها الحال السيئة لصحة المصريين وضعف بنيتهم الجسدية وعدم قدرتهم على تحمل الحياة. ذهب الزمن الذي يدخل المواطن مشتبهًا به أو متهمًا بارتكاب جريمة فيهاجمه فجأة هبوط الدورة الدموية وضعف التغذية ويسقط قتيلا أمام دهشة وحيرة الضباط والأمناء وأسئلتهم عن الذي تسبب في حدوث ذلك. خلال الأسابيع القليلة الماضية تطوّر الأمر، فأصبحت نفس الأماكن مسرحًا للموت بالإرادة الشخصية والهروب من ضغوط المجتمع وإنهاء الحياة بقرار ذاتي. لم يعد المواطنون يموتون بشكل قدري تصادف حدوثه داخل أحد أماكن الاحتجاز وبين يدي الشرطة. ثلاثة مواطنين خلال أقل من شهر أنهوا حياتهم بأنفسهم، حسب روايات الأمن الصادرة، ردًا على رفض أهلهم لتصديق ذلك أو المتهمة لهم بتعذيب ذويهم أو المحتشدة خارج أسوار الأماكن التي ماتوا داخلها. في الثامن عشر من الشهر الماضي دخل جمال عويضة قسم شرطة منشية ناصر، بعد ألقت قوات الأمن القبض عليه، وفي الصباح خرجت سيارة الإسعاف أمام أهله الواقفين في انتظاره بالخارج دون أن يدركوا أنها تحمل ابنهم جثة هامدة. بعد قليل قالت الشرطة لهم: اذهبوا لاستلام ابنكم من المشرحة.. وجدناه مشنوقًا بعد أن علق نفسه بحبل في نافذة الغرفة التي احتجزناه فيها. اعتصم الأهل أمام المشرحة رافضين الرواية، ونافين أن يقدم ابنهم على اتخاذ خطوة كالانتحار، ولاحقًا عند دفنه اكتشفوا في مناطق عديدة من جسده ما قالوا إنها آثار تعذيب تعرض له خلال ليلة الاحتجاز التي قضاها في القسم، وهي الرواية التي دعمها محتجزون آخرون كانوا معه رأوه وهو يدخل منهكا غير قادر على الوقوف على قدميه. تسأل نفسك وأنت تعرف الصورة التي تبدو عليها أماكن الاحتجاز في مصر، وإن استبعدت رواية التعذيب. متى كان في أقسام الشرطة أماكن تسمح بمساحة الحرية والحركة للبقاء وحيدًا في "غرفة" تتيح لك أن تعلق نفسك بحبل وتنهي حياتك! مؤخرًا خرج تصريح من مصدر في مصلحة الطب الشرعي نقلته صحيفة "الوطن" دمج الروايتين سويا ليرضي الطرفين. تعرض الرجل للتعذيب بالفعل، لكنه قرر بعد ذلك أن ينتحر بمحض إرادته! بعد عشرة أيام من حدوث تلك الواقعة احتشدت عائلة وأقارب أحمد عبد المتعال بدري وجيرانه من قرية أبو حميد خارج مركز شرطة إسنا بعد وصول جثته إلى مشرحة المستشفى المركزي. كان أحمد قد دخل المركز قبلها متهما بتكوين تشكيل عصابي لسرقة الدراجات النارية. حسب الرواية الرسمية، أتيحت الفرصة أيضًا داخل غرفة الحجز ليتمكن أحمد من تعليق نفسه بقطعة قماش ربطها بقطعة حديدية في السقف وتخلص من حياته. أضافت مصادر أخرى لجريدة "البوابة" أن التقرير المبدئي أثبت وجود قطع في شرايين اليد اليسرى، إضافة إلى علامات حبل على الرقبة والقدمين! هكذا تقول الشرطة.. أتيح لنزيل مركز إسنا أن يجرب طريقتي انتحار إلى أن نجحت واحدة منهما أخيرًا في إنهاء حياته. أما محمد جمال من قرية بني مر فدخل مركز شرطة الفتح في أسيوط متهمًا في البداية بسرقة دراجات نارية أيضًا، ثم تعاطى المخدرات بعد أن دخل في مشادة مع رجال الشرطة، قبل أن تقول السلطات لاحقًا إنه انتحر بعد القبض عليه مباشرة. حسب تصريحات مدير أمن أسيوط اللواء جمال شكر فإن محمد أتيحت له نفس المساحة من الحرية وزيادة، فقد امتدت هذه المرة لتركه يربط رقبته "في الباب"، ويقتل نفسه أثناء تحرير محضر ضبطه. أين كان من يحررون المحضر؟ لا يبدو المناخ مهيئا لطرح أسئلة منطقية كهذه. قبل فترة قصيرة كانت الشرطة مهتمة بصياغة تبريرات أو روايات تراها محكمة وتحاول جعلها قابلة للتصديق، وقبلها كانت تتحدث عند كل حادث تعذيب أو استخدام مفرط للعنف، واصفة إياه بالتجاوز الفردي الذي ترفضه وستحاسب مرتكبيه إن علت الموجة والغضب وفشل الإنكار والتبرير، الآن يبدو أن كل ذلك لم يعد له أهمية أو حاجة في تقديرهم. بات معظمنا يعرف جيدًا كيف انتهت قصص وقضايا بدأت بالاعتراف بممارسة القتل والتعذيب، فما بالك بالتي تبدأ الآن بالانتحار؟!